شعر و ادب

جرح في الذاكرة

جرح في الذاكرة

جرح في الذاكرة

بقلم . لجين مشهدية

دخلتُ إلى نديم بعد أسبوعٍ من وصوله إلينا, بعد أن زاره أطباءٌ كُثُرٌ واشتكوا جميعهم من طبيعته المنعزلة وقسوته في المعاملة وحين دخولي كان يجلس على كرسيٍّ بالقرب من النّافذة، رحَّبت به وبادلني التّحيّة، طلبت منه أن نتسامر قليلاً لكنه كانَ غريباً، لم يوافق في بدايةِ الأمر ظنّاً منه بأنّني من قوّات الأمن وأتيت لاستجوابه، حاورته وحاولت إزالة الضّباب عن مخيلته موضّحةً له أنَّ هدفنا في هذا المصحِّ هو علاجه وأنّ قصته مع الشّرطة ستبدأ حين خروجه من هنا وحين أقنعته بكلامي وافق على طلبي شرطَ أن ينفّذه بعد أسبوع متعلِّلاً بأنَّه يريد التّجهُّز لأسئلتي، اتفقنا حينها وبعد أسبوع جئت إليه وبعد التحيَّة سألته بشأن اتفاقنا فقال بأنه جاهزٌ ونهض من مكانه ثمَّ عاد إليَّ حاملاً بيده كرَّاسة صغيرة أعطاها لي وطلب مني أن أقرأها ثمَّ أعود إليه، تعجَّبتُ قليلاً لكنّني نفذت طلبه وأخذتُ الدفتر وخرجتُ من الغرفة، كانت علامات الاستفهام تملأ عقلي وفضولي يشدُّني كثيراً لقراءة سطور هذا الدّفتر, حينما دلفتُ إلى مكتبي كان مكتوباً على أوراق الدفتر مذكرات نديم، ففي منزلٍ صغيرٍ يبلغه الصدى أكثر من الحديد تابعٌ لحيٍّ عشوائيٍّ مهمل, لم يمسّه التّنظيم من أيّةِ ناحية، لم يزرهُ التحضُّرُ أبدًا، يقطن نديم وعائلته وهم أشخاصٌ فُقراء معدومي الحال يشكون القلّة، منذ أن كان نديم طفلاً وهو يدفع ضريبةَ فِقرهم بكلِّ المواقف الّتي تعترضهم، يرى الكرهَ الشَّديد في عيونِ أهالي الحيّ لهم .
في ليلةٍ من الّليالي

عندما كانَ عمرُ نديم ثماني سنوات، عادَ أبوه ثَمِلاً إلى المنزل حيثُ كان يمشي بخطواتٍ مُثقلةٍ ويُسندُ جسدهُ على الحائط لإعانته في سيره وعلى وجههِ ابتسامةٌ خرقاء، يدندن بصوتٍ شِبهَ مسموع ليصيح فجأة بزوجته بأنّه جائع ويأمرها بجلب الطعام ..
ترمي الزوجة نظراتٍ تخلَّلها القرف مخبرةً إيَّاهُ أنَّ الثلاجة فارغة و لم يتبقَ بها سوى زجاجات المياه الباردة، فراح الأب يحملق بالشّطيرةِ الّتي بين كفي نديم ويسأله عنها

أخبره أن أمه هي من أحضرتها له، مشى الأب تجاههم غاضباً وطلب من الأمِّ إحضار الطّعام وكرَّرت إجابتها مرَّة أخرى، لكنَّ يدَ أبي نديم حلَّقتْ قُبيلَ انتهاء جملتها لتُحطَّ على وجنتها وينهال عليها باللكمِ والركل، أخذ نديم يصرخ بِملءِ صوته و يترَّجى أباه أن يبتعد عن أمّه، وتشبَّثت يداهُ الصغيرتان بقدم والده الضخم فيرفع الأب العطوفُ قدمه ويرمي بولدهِ بعيداً، جلس يبكي بحرقة فقد كانَ يسمع صوت نجدة أمِّه وتوسُّلاتها لأبيه، استجمع قواه مجدداً ووقف ثمَّ صرخ على أبيه وشتمه، كان سليماً حتّى تفوه بتلك الشتيمة، حيث بدا لهُ المشهدُ من الأسفلِ مرعباً للغاية “رجلٌ ضخمٌ يلتفتُ إليه ببطءٍ و يسير تجاهه ثمَّ يصفعُه بكفّهِ الكبير ويلقي به أرضاً، ويصرخُ به ويشتمه ثمَّ يفّكُ حزامَه وينهالُ على جسده الصّغير ضرباً ليصرخَ نديم و يشهقُ منادياً أمه لمساعدته”
وكلُّ هذا بسبب تأثير السُكْر

ابتعدَ ذلكَ الضخم عنه بعد أن أنهكَ جسده بالضرب بذلك الحزام اللّعين وملأه بالكدمات
قال بأنَّه لم ولن ينسى تلكَ الليلة أبداً، تكوَّرَ على نفسهِ في زاويةِ غرفتهِ و أجهش بالبكاء فلا حولَ له ولا قوة، لم تكن تلك أولَ مرة يُضرَب بها نديم من قِبَل والده لكنَّها كانت الأكثر وحشيّة وإيلاماً .
في صباحِ اليوم التالي ذهب نديم للمدرسةِ وحيداً كعادتهِ فلا أصدقاء له، فطفلٌ يملكُ مثلَ هذا الأب سينبذُ الناس بالتّأكيد، كان يفرِّغ معاناته في دراسته وبالرغم من أن ضِعفَ شخصيته كانَت تجعلُ منه شخصًا مبهمًا لمعلماته إلا أنَّ نتائجَ امتحاناته تبلغ الدرجاتَ الكاملة دائماً.

و في السنة التاسعة من عمره، دخلَ أبوه المنزلِ حيث وجده يلعب بالكرة، نادى عليه ليعلِمَه أنَّهُ بالآونةِ الأخيرة بدأ يبحث له عن عملٍ، تسمَّر مكانه مصدوماً ليتابعَ أبوه كلامه قائلا أنّه قد وجدَ له مكاناً ليعمل به عند بائع الخضار الّذي في حييهم، لم يكن بيد نديم حيلةً سوى الامتثال لأوامر والده أو يتناول وجبة لكم بدلاً عن الشطيرة التي تعدُّها له أمُّه عادةً, ذلك الرجل يُعرَف بأنَّه جلِف الطّباع قلَّما يحادثه لكنَّه لم يكترث يوماً لهذا فهو معتادٌ على المكوث وحيداً وعلى كرهِ الجميع لهم وكلّ النّقود الّتي كان يجنيها كانت ترقد في جيب والده ليصرفها على ملذاته، لم يستطعْ يوماً أن يتكلمَ أو يطالبَ بحقوقه خوفاً من اللّكمِ و الضّربِ المبرحِ، استمر بالعمل عِنده لفترةٍ طويلة ..
كانَ يوفِّق بين العملِ و الدراسة و يحافظ على تفوُّقه.

وذات يوم وهو عائدٌ من المدرسةِ، لم يجد أمه هناك، لم يخطرْ في مخيِّلته سوى أنَّ عملها في تنظيفِ دارِ أحدهم قد طال، بدَّل ملابسه سريعاً وذهب للعمل ليعودَ مساءً ويكتب واجباته ويحفظ دروسه، عادَ أبوه للمنزل و سأله عن أمه، أجابه نديم باستفسارٍ بأنَّه لا يعلم وظنَّ أنهما سيعودان سوياً بدأ الأب بالشتم واللّعن كعادته، في تلكَ الأثناء وردتهم مكالمة من المستشفى تُعلمهم أنَّ أم نديم قد تعرضت لحادثٍ وهي الآن في العناية وبعدها بساعاتٍ قليلة هُدِمَ الجدار الوحيد الّذي كان يستند عليه ..
لقد فقد أمه للأبد ..
صحيحٌ أنَّ أمه لم تستطعْ يوماً أن تحميه من ضربات أبيه لكنَّها كانتْ ضماداً لجراحه.
بعد أشهرٍ معدودة، جاءَ والدهُ غاضباً إلى المنزلِ، وبدأ بالصراخ به لأنّه طُرِد من العملِ لتقاعسه، كان يومها قد نجح لسنته الدراسية السابعة وحينما ركض عليه وابتسامته تملأ وجهه فقد كان هذا اليوم الأول الّذي يبتسم به بعدَ موت أمه ليخبره بنجاحه، رمى الأب بأوراق نديم بعيداً وصرخ به بوجهٍ حانق، أخبره بأنَّه لا داعي لإكمال تعليمه، و أن هذه هي سنته الأخيرة في المدرسة ..
أنهى كلامه مع نديم و ذهب ليجلس نديم و هو يبكي بقوّة، قد كُسرَ قلب نديم ألف مرَّة من قسوة كلام أبيه
رأى أحلامه تتهاوى أمام عينيه ومستقبله ينتهي قبل أن يبدأ وليس لديه شيئاً ليفعله سوى الامتثال لكلام الأب العطوف المخمورِ دوماً .
حاول في صباحِ اليومِ التالي أن يطلب العذر منه فقد توسل إليه كثيراً كي يبقيه في المدرسة لكنَّه كانَ مصمِّماً على رأيه.

بقي نديم يبحث عن عملٍ لفترةٍ طويلة وحينما كان يعود للمنزلِ دونَ أن يجد عملاً كان يُوَبَّخ بقسوة وينهال عليه والده بأبشعِ الشّتائم والضّربِ المبرح كعادته، لكن يومها انتابه شعور غريب لم يبكِ و لم يتأوَّه، ذهب للنومِ فقط.
فاجئه والده باليومِ الّذي يليه بأنّه قد وجدَ له عملاً آخر عند ميكانيكي كانَ رجلاً ضخمَ الجثةِ، غائرَ العينين، أشعث الشّعر، أسمر البشرة، كانَ سيء المعاملةِ معه كثيراً وأصبح لديه شخص آخر يوبِّخه ويضربه إن احتاج الأمر.

و هكذا انقضت سنواتُ مراهقته يتنقَّلُ من صنعةٍ لصنعةٍ أخرى، لم تمرَّ على نديم السعادة أبداً ولم يضحك ثغره ولا حتى مرة واحدة، كانت أعوامه كلها مليئة بالضربِ والشتم غارقةً بالكمدِ والتعب.
في يومٍ من الأيامِ، جاءَ للحيِّ سكانٌ جدد كانَ لديهم شابٌ بعمر نديم اسمهُ وسام.
كان وسام يكبره بعامٍ فقط فعمرهُ تسعةَ عشر ربيعاً، شابٌ لطيف حاولَ أكثر من مرةٍ أن يتعرَّف إليه لكن طبيعة نديم المنعزلة كانت تصنع بوجهه آلاف السّدود.

وفي يومٍ من الأيام اعترضَ طريق نديم مجموعةٌ من الشبانِ المشاكسينَ ليحاولوا سرقته، في تلكَ الأثناء كانَ وسام قادمٌ هو وأصدقائه وتصادف المشاكسون مع وسام فركض وسام وكل من معه سريعاً نحو نديم ودافعوا عنه، كان هذا اليوم الأول الّذي يحميه فيهِ أحدهم، شعر بالامتنانِ الشّديد لوسام وتمنى لو أنَّه مِثله شابٌ خلوق، قوي، هكذا كان يظنّه..
ومن يومها أصبح صديقاً لهؤلاء الشٌبان “وسام ونوَّار ومازن”
مرَّت الأيام وبدأ يلاحظ تصرفاتٍ متطرِّفة لهم، إنهم يشربون السّجائر وجلُّ اهتمامهم معاكسة الفتيات، نبَّههم كثيراً بألا يفعلوا وكانوا يفعلون مُتجَاهليه
ويوماً ما أثناءَ تسكعهم مساءً عرض وسام على نديم سيجارةً، تمنَّع في بادئِ الأمر لكن مع الوقت و كثرةِ العروض قبلها, شربها لأول مرة و بدأ يكحُ بلا توقف، أخذ الثّلاثة يضحكون عليه ويقولون: ستعتاد عليها.
ظنَّ أنَّ اعتياده عليها أمراً مستحيلاً لكنَّه أصبح مدمناً.

كان يقضي جلَّ وقته بين العملِ وأصدقائه كي لا يرى والده فبعد أن أصبح شاباً أصبحت علاقته به أسوء من قبل بكثير.
تعرّف نديم على فتاةٍ تُدعى قمر، فتاةً حسناء ممشوقة لها وجهٌ كالبدر، عيون مقتبسة من لونِ السّماء والبحر، ينسدل شعرها المجعّد على كتفيها، وقع في حبِّها ..

كان يلتقي بها كلَّ حين، يتبادلون أطرافَ الحديث ويهديها من وردها المفضّل.
ذاتَ يوم، ذهب لبيت صديقه نوَّار, فهم يجتمعون عنده دائماً, هو أكبرهم ويسكن بمفرده، كانَ غاضباً من صاحب عمله لأنّه وبَّخه وطرده من العملِ بعدما اتهمه بالسرقة، كان هناك وسام ومازن، كانَ شكلهم غريباً، يشمُّون مادةً كالملح وينظرون له بمعالمٍ حمقاء ويتقهقهون, طلب منه وسام تجريبها، فسوف تمتصُّ غضبه ويرى العالم كما لم يره من قبل، تركهم نديم وذهب، وكلَّ مُدَّةٍ كانوا يحاولون إقناعه بها دون جدوى، بعد أيام قد سمع أنَّ قمر قد عُقِد قِرَانها على شابٍ غنيٍّ من خارج الحي، كان هذا اليوم قاسٍ عليه كثيراً, لم يتحمل وارتمى على الكنبة بجانب وسام وجلس يصرخ ويسأل نفسه “لمَ لم يكن مكان عريس قمر ولِمَ كلُّ هذا يحدث معه ومتى سيتذوق طعمَ السّعادةِ ولو لمرةٍ واحدة فهل كُتِب على عمره الشقاء والتعب ؟!
ضربت عيناه على الطاولة حيث كيس الطحين الذي ليس بطحينٍ، فجأةً وجد نفسه غارقاً معهم بضالتهم ..
من السّجائرِ للشّربِ فالتعاطي.

في يومٍ من الأيام كان وحده عند نوَّار و طرأ لنوَّار عملاً ضرورياً، قال بأنَّهُ سيعود سريعاً ولا مشكلة ببقائه هنا فمازن سيأتي بعد قليل، مكث نصفَ ساعة يشاهدُ التّلفاز لكن فجأةً نملَتْ أطرافه وأخذ يبحث في المنزلِ كالمجنون وحين وجد ما أدمن عليه ارتمى على الأرض ..
جاء مازن و جلسا سوياً في الصالة، مازن هو أصغرهم ولا يزالُ مراهقاً كحالهم، كان غاضباً يومها ولم يخبر نديم بالسبب، تركه ودخلَ للغرفة متعلِّلاً بأنَّه يريدُ الجلوس وحيداً، جلس ساعةً كاملةً وإذ بنديم يسمع صوتَ خبطةٍ قوية، ركض مسرعاً ليجد مازن ملقى على الأرض و بجانبه حقنة، هرول نحوه ليساعده، لكنَّه فجأةً سمع صوت خبطاتٍ عنيفة على باب الشّقة ذهب ليفتح الباب ..

فوجد مجموعة رجالٍ ضخام ثبَّتوه وأخذوا يبحثوا في أرجاء المنزل ثمَّ سحبوه هو ومازن وقد سمع بأنَّ مازن قد توفِيَ إثر جرعةٍ زائدة وأنَّ ما بقي من أصدقائه جاؤوا خلفه أمَّا عنه فقد وضعته الشرطة بهذا المصح ليتعافى وبعدها لا يدري شيئاً عن مصيره وما العمل الذي سيُرغمه عليهِ والده إذا خرج أو هل يا ترى سيجد أصدقاءً تقبَل بصديقٍ قد كان يتعاطى أو فتاةً تحبُّ حشاشاً ؟!

أضاف أيضاً بأن السبب وراء وصوله لهنا هو أن داخل كلًّا منَّا ذئبٌ وغزال، الذّئب هو من يجرنا وراء شهواتنا وملذاتنا والغزال فهو ضميرنا النقي النائم الذي عادةً ما يقوِّم طريقنا والجميع اجتمعوا على أن يرعوا الذّئب الّذي بداخله حتى كَبُر ونهشَ لحمَ الغزال.

حين انتهائي من القراءة كان قد حلَّ المساء وانقضى الأسبوع فانتظرتُ صباح الغد وذهبتُ إليه، عند دخولي صرخت من هول المنظر كان نديم معلقاً بالسقف يلتف حول رقبته حبلٌ ليأتي الجميع على صوت صرختي ويأخذوا جثَّته قالوا لي, بعدما هرعتُ خلفهم لكي أعرف حول نديم, أنَّهم وجدوا رسالة من نديم قد تركها على منضدته يقول فيها :

“من الصّعبِ أن يعيشَ المرءُ حياته كلها يسير في سبيلِ الألم، كلّ الأيامِ و المواقفِ ضِده.
من الصّعب أن يعيش المرء حياةً كاملة دون أن يحتضنه ويحتويه أحدهم”
بالتّأكيد لم تكن هذه المرة الأولى الّتي يموت فيها نديم فقد مات ألف مرَّة وهو على قيد الحياة لكنَّها كانت الأخيرة، لقد رحل نديم دون أن يربِّت على كتفه أحد، دون أن يُسقى من نبع السّعادة كأساً، فأنا واثقةٌ بأنه لو أحبَّ أحدهم نديماً بما يكفي ما كان ليصل إلى هذه الحالة .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى