
رصيف الزمن
بقلم . حسني محمد جردو
مرَّ منتصف الليل من محطته اليومية ، ولم أزل على رصيف الزمن أنتظر وصول الفجر، النسيم العليل يرسل نفحاته الواحدة تلو الأخرى لتقبِّل خدي وتمضي في طريقها ، بالرغم أنَّ الليل ظلّل بخيمته كلَّ شيء، إلا أنَّ تلك الثقوب في مصفاة السماء جعلت المنظر جميلاً وغياب القمر في سفره الشهري لم يجعل تلك اللوحة البديعة الجميلة تكتمل ، عدلت الكرسي وأطلقت العنان لتلك الآلة التي بجانبي أن تبوح بما لديها في هذا الوقت من سكون الليل ، ألحان عذبة تداعب الروح ، تصفيق شديد ، أم كلثوم صدحت بنقاء مطلق…وتمازج رائع ما بين صوتها والموسيقى … ذكريات … داعبت فكري وظني . سرت بقشعريرة غريبة في جسدي ، عدت بأدراجي إلى ما قبل عدة سنوات ، إلى ذلك الكوكب الذي رأيت فيه تلك النجمة اللامعة وهي تمر من أمامي فبقي جسدي في طريقه وعلقت روحي في أطراف شعرها تتأرجح تارة وتتشبث تارة رائحةُ عِطرها تتغلغل في داخلي كما يتغلغل الرضيع في حضن أمه فتلفّه ويلفّها ، بحر من السعادة سبح في داخلي ، أمواج الحب تتلاطم بين خفقات فؤادي ، رياح الغرام تعصف بي ، قلعت كل أوتاد قلبي فتركته في صحراء الشوق يلهث عطشاً ، خناجر لحظها مزقتني ، ضاع عقلي في صفاء وجهها ، تشتت كياني في قدها الممشوق ، تبعثرت أشلائي بين يديها ، وبقي صوتها الناعم المختلط بالخجل ، يرنُّ في آذاني ، سمفونية رائعة لبتهوفن ، من كل الطبقات الموسيقية ، لم تكن كلمة صباح الخير التي قالتها تحية الصباح ، بل كانت الصباح بأحلى ما فيه ، غابت البيوت وظهر مكانها البساتين ، تحولت أعمدة كهرباء إلى أشجارِ حور تتراقص على أصوات مشيتها ، تتمايل مع حركتها ، اصطف الورد الجوري ليرسم لها الطريق مؤدياً لها التحية .
هذه المرة ليست كما المرات السابقة التي رأيتها بها ، فكرت قليلاً وأنا لم أزل في طريقي ، لماذا لا اصارحها بمكنون نفسي ، ما الذي يمنعني من ذلك ، توقفت ، بالرغم أنَّ أهل الحي كلٌّ في شأنه إلا أنني أحسست أنهم يراقبونني ، ويتحلقون حولي ، التفت خلفي فوجدتها تمشي بخطوات بطيئة ، عدت أدراجي إليها ، لم تكن قد ابتعدت كثيراً ، وصلت إلى جانبها ، حسني !!! صوت زلزل كياني ارتعدت فرائصي وأرتجف قلبي ، من ذلك الصوت ، التفت مسرعاً نحوه ، أبي !!! وبصوته الأجش الخشن : إلى أين أنت ذاهب ؟ … تلعثم الكلام بين شفتي ، وكلل العرق جبهتي ، إلى …وأشرت بأصابعي نحو جهة أخرى … إلى … إلى زاكي لأجلب كتاب العربي … اشرقت الشمس من بين شفتيها ، توقفت قليلا مطأطأً رأسي حتى غاب أبي عن ناظري ، أسرعت الخطا خلفها لكنها آوت إلى قصرها الريفي البسيط وغابت بين دوالي العنب .
ذلك اليوم لم يكن يوماً عادياً في حياتي ، فقد مسَّت قلبي لواعج العشق ، وترانيم الهيام ، وشدو الغرام حتى تلاشيت بينهم كما تتلاشى قطعة السكر في كوب الحليب .
أيام طويلة وأنا أرقبها وهي ترقبني ، نسرق النظرات ، ونتبادل الآهات ، نلتقي في غفلة من الزمن نبث آهات الشوق في خوف وحذر منتظرين ذلك اليوم الذي سيكون لنا وليس علينا .
مضت الأيام مسرعة وقبل أن أجرأ أن أفاتح أبي برغبتي بالزواج منها ، دقت نواقيس الخطر ، ونعق غراب الخراب في عمري ، ها هي حبيبتي تُزَفُّ إلى ابن عمها الذي فرض على أهلها أحقيته بها حسب العادات والتقاليد ، تحفرت كل الدروب أمامي ، لم يعد أي شيء له معنى ، هناك بين الدوالي دفنت قلبي ، ولم أعد أستطيع أن أزور قبره بعد اليوم .
نسمة من نسمات الليل البارد صفعتني على وجهي أعادتني إلى رشدي . لم يبقى من تلك الأيام سوى الذكريات ، كم هي حزينة تلك الأحلام ، أحسسّتُ أنَّ ذلك العاشق في داخلي يريد البكاء ، ولكن أدركت أنَّ قطار الزمن قد مضى وأنا هنا على الرصيف قابعاً عندما مرّ ولن يعود أبداً فالزمن لا يمكن أن يعود إلى الوراء .