شعر و ادب
قراءة في رواية ( زناة) للقاص والروائي سهيل الذيب
غنى منصور
وسط تدفق الرجعية ونهوض الماضي وتدفق التجهيل والجاهلية في أوصال البعض حتى استنبتت لحاهم .. جاء من أقصى المدينة رجلٌ يسعى .. هكذا رأيت الروائي سهيل الذيب وسط ازدحام الماضي في مدن الآن .. تزدحم في ذهن الكاتب سهيل الشخصيات والأحداث وتنهض مفردات اللغة العربية فصيحة ً وعامية وتنسكب في نسيجٍ متينٍ .. نصاً روائياً هو ثمرة ٌ حين استنبت الأديب سهيل شيئاً من قصص الماضي في وعيه المتحضر ليقدم لنا رؤية يشي عنوانها بأنها جرسٌ يُقرع لينبهنا.. ويحمل العنوان (زناة) سؤالاً .. من هي تلك الفئة وكيف يكونون في صيغة الجمع بينما الأعراف والأخلاق العربية تنبذ الزاني المفرد .. فكيف بهم جماعة؟!
شكلت الرواية بانوراما اجتماعية مُحكمة تطرقت إلى عدة قضايا اجتماعية هامة ومنها:
– الفقر والبؤس.. والفقر آفة الآفات والحامل للعديد من الأمراض الاجتماعية والنفسية.. ومن السطور التي عبرت عن هذه الفكرة..
( فرح عطية لانهم سوف يصبحون أغنياء أما ميار فهمس في أذن أمه:
بدك تشتريلي صرماية جديدة لإنو صرمايتي اهترت.)
ونوه الكاتب سهيل إلى أن الضحك كان يُنهى عنه حيث كان الضحك بصوت عالي فال شؤم في تلك الأيام.. وجاء في الرواية قوله:
( منذ أن ولد ماجد هذه هي المرة الاولى التي ننام فيها معاً ، وعلى سرير ٍ أيضاً ، وفي غرفة يمكن أن نغلق بابها ، كم أنت كريم يارب…. ولأجل المفارقة كان يقول هذه العبارة في منزل رجل غريب وخارج أرض الوطن عن.)
وفي موضعٍ آخر كانت إحدى الشخصيات تتغزل بالأخرى ثم قالت:
( لا يوجد سوى الذباب والقارص وأنت وأنا تحت هذه الشمس.)
– ومن المسائل الهامة التي تطرقت لها الرواية واقع الطفولة اضطهاد الأطفال في المراحل السابقة:
حيث كان يفرض عليهم اللباس والطعام والكثير من الأشياء الأخرى.. وهذا الجيل المقهور والمقموع والمعتاد على التسيير لا التخيير هو جيل المستقبل.. و ورد ذلك في الصفحات 15 ، 17 ، 18 ، 19.
ومن التعابير البليغة التي استخدمها الأديب في توصيف معاناة الطفولة حيث تضطر الأخت أحياناً إلى القيام بدور الأم رغم صغر سنها.. مما جاء في الرواية قولهُ:
الظلام الدامس الذي غادرته نجومهُ مثلما هرب القمر منه منذ الصيف الماضي ، كلها عوامل كانت تثير الرعب في نفس (الطفلة الأم).
– وتطرق الكاتب أيضاً إلى سيكولوجيا المراهق في الأرياف:
ومثال ذلك ماورد في الصفحة 33 لابل وتحدث أيضاً عن انسحاب بعض صفات الكبار في السن على الشباب كالإيمان بالخرافات كما ورد في الصفحة 47 .
– واعتنى الكاتب سهيل بالوصف فجاء دقيقاً واهتم بالكثير من التفاصيل كما في قوله:
( هاهو ذا ابو ماجد يرتدي قميصاً أبيض لم يكوَ يوماً فبدا كما يقولون في القرية مثل علكة الغول.)
وقد ذكرتني الرواية بمقولة للأديب غسان كنفاني:
(ليس بالضرورة أن تكون الأشياء العميقة معقدة . وليس بالضرورة أن تكون الاشياء البسيطة ساذجة . إن الانحياز الفني الحقيقي هو كيف يستطيع الإنسان أن يقول الشيء العميق ببساطة.)
– وأشار سهيل الذيب إلى اجتماع المتناقضات في الذهنية العربية.. كما جاء في الصفحات 28 و 29 و 80 و 86 حيث أشار إلى أن كل السلوكيات تمارس هنا كما في دول الغرب ولكن الفارق أن الغرب لا يعتبرها عيباً وتمارس فيه بشكل علني بينما نمارسها نحن بشكل سري.
ومن ميزات الرواية التعابير البليغة الجريئة والبيان الساحر كما في قوله:
( كان الحي الجنوبي صورة طبق الاصل عن الحي الشمالي: فقر وجوع وكرم وشهامة وجهل وتخلف وإيمان مرضي أيضاً وسأسميه إيماناً مدقعاً .)
( في السابعة صباحاً ترى جموع الفلاحين مع دوابهم يغادرون الحقول ، فيبدو كأن غزواً حميمياً من الإرهاق والتعب يقتحم المنازل الصامتة صمت القبور.)
( إذا جئت إلى بيتنا قد يقتلونك .. قلت لها : سآتي . قالت: وأختي التي تنام إلى جانبي ؟ قلت: لن أضاجها أبداً . ضحكنا معاً . ومضت من دون وجلٍ او خوف . كانت مثل فرس ٍ جموح لاتهاب شيئاً مضت وتركت ظلها في الفراش ، فنمت معه إلى الظهيرة .وياللسعادة حين تأتي دفعة واحدة . كان حبي لصديقي شقيقها بسام الدرج للصعود إلى شباك جسدها.)
(رآها من بعيد كعروس بحر على الشرفة المطلة على المدى اللامتناهي ، وبدا كأن ليلين يتعانقان عناق عشيقين مشتاقين.. ليلين يغطيان (ريتا) التي تلتصق بها غلالة لا تستر شيئاً ، فبدا الجسد أبيض يتوهج من خلالهما . ليلين يمتدان من السماء إلى أقصى البحر إلى قدمي ريتا . ارتجف ابراهيم حين راها . أبرقت السماء ، وتساقط المطر والشهب معاً في منظر ٍ فريد يغزل كل منهما الآخر مثل خيطين من نور.)
(المجتمع الشرقي .. هو لا مجتمع ذكورة ولا انوثة هو مجتمع عفونة.)
– وتضمنت الرواية عمقاً في الطرح الفكري جاء على لسان أبو جورج: ( الفقير لا وطن له . الفقير وطنه هو المكان الذي يطعمه.. معك حق تكره ضيعتك .. الوطن مش سما وتراب وهوا .. الوطن اكل وشرب واحترام .)
وفي موضعٍ آخر قيل ( من لابيت له لا وطن له.) وأشار الكاتب إلى أن الجدوى لأي عمل مؤسساتي حضاري لا تتحقق دون اصلاح اقتصادي في الصفحة 44 والصفحة 45.
– وقد وقع الكاتب في التنظير للمسألة في بعض المواضع عوضاً عن توظيف حدث ما لخدمة الأفكار التي أراد ايصالها ولعل الأجدى كان كشف العوالم الداخلية للشخصية وتحولاتها عبر الحدث والصراع.
ورغم أن الكاتب حمل الشخصيات الكثير إلا أنه التزم بمحددات الشخصية العمرية والثقافية فجاءت شخصياته منضبطة فنياً ومقنعة كما هو الحال في الصفحة 94 حيث ابراهيم الفلاح يُعبر كفلاح ( يبدو كالأولياء الصالحين وهو يبذر الحكمة من فمه الملوث . يلعن أبوكم . كلكم نسخة وحدة . سفلة .. حلس ملس ناعم نجس.. إلخ)
– تدخل الراوي:
تدخل الراوي في العديد من المواضع التي كنا نتوقع فيها مونولوجاً أو سلوكيات كاشفة لبنية الشخصية السيكولوجية كما هو الحال في الصفحات 72 و 75 و 91 على سبيل المثال.
– عمد الروائي سهيل الذيب إلى استخدام المحكية في غير موضوع وكان أن كتب الصفحات 192 – 193 – 194 كاملة ً بالمحكية وكأنه قرر التخلي فجأة عن اللغة العربية الفصيحة وكان في رأيي الأجدى به أن يتمسك بها وأذكر هنا ردَّ نجيب محفوظ على بعض النقاد الذين طالبوه بالكتابة بالعربية المحكية في مصر فكان ردّه ( إن اللهجة العامية من جملة الأمراض التي يعاني منها الشعب والتي يتخلص منها حتماً عندما يرتقي ، وأنا أعدُّ العامية من عيوب مجتمعنا مثل الجهل والفقر والمرض تماماً والعامية مرض أساسه عدم الدراسة والذي وسع الهوة بين العامية والفصحى عندنا هو عدم انتشار التعليم في البلاد العربية ).
– امتدت أحداث الرواية إلى عام 2020 م ومما جاء في الصفحات الأخيرة..
(على اعتاب عام 2020 م كانت الدويلات المسماة عربية قد توالدت قيصرياً . وبلغت أكثر من أربعين دولة ولكل قبيلة علمها الوطني ونشيدها ومذهبها وعرقها وأفخاذها الذين يقاتلون للاستقلال عنها . وقد امدتهم الامبراطورية الاسرائيلية بصنوف الأسلحة الفتاكة مجاناً . لذلك انتشرت المخيمات على طول حدود القبائل وعرضها.)
وهذه ليست نظرة استشرافية تشاؤمية .. بل كون هدف الرواية هو التأثير في إنسان هذا الزمان فقد بنى سهيل الذيب نهايته على أسوأ السيناريوهات المحتملة كي يحدث صدمة أو ردة فعل عند المتلقي تولد لديه حرصاً يدفعه للعمل على تجنبها من خلال تغيير الواقع المعاش الآن.