شعر و ادب

قراءة نقدية لقصيدة الشاعرة المتألقة ميّادة سليمان

قراءة نقدية لقصيدة الشاعرة المتألقة ميّادة سليمان

نبدأ من العنوان (أشتهي فاكهة صوتك) والبداية مع الفعل المضارع (أشتهي) ومعناه المختصر (أحبُّ و أرغب بشدّة) ولقد ورد في المعجم الوسيط (شهَاهُ)-شهوةً:أحبّهُ ورغب فيه. و(اشتهى)الشيءَ:اشتدّت رغبته فيه. وفي التنزيل العزيز:
((ولكمْ فيها ماتشتهي أنفسكم)) و(الشهوة)الرغبة الشديدة والقوّة النفسانية الراغبة فيما يشتهى /نلاحظ ارتباط الفعل الوثيق بالنفس/ ومايشتهى من الملذّات المادية وفي التنزيل العزيز أيضا//زيّنَ للناس حبُّ الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضّة والخيل المسوّمة والأنعام والحرث// )الشهيُّ):
المشتهى واللذيذ المحبوب ….. فالفعل يمتدّ لما هو مرغوب مما تستلذّ به النفس ماديا ومعنويا …. (فاكهة)فكهَ فكهاً وفكاهةً: كان طيّب النفس مزّاحاً و(الفاكهة) الثمار اللذيذة والحلواء وهو المعنى التي أرادته الشاعرة ومن هنا نستطيع أن نستشفّ هذه الرغبة العارمة بالتلذذ بفاكهة صوته التي جاءت بها على هذه الصورة وهي (التشبيه البليغ المضاف) فصوته فاكهة وكيف يكون ذلك؟ بتشبيه ماتقوم بوظيفته الأذن ومايقوم بوظيفته اللسان وهما حاستان متباعدتان في التشاركية!؟
الجواب يكون بمانستطيع تخيله من جمال هذا الصوت ومن عذوبته ونغماته التي تشبه بتنوعها تنوّع الفاكهة اللذيذة الحلواء الناضجة ففي كل نبرة من صوته مساواة لمذاق من انواع الفاكهة التي تستطيبها النفس وترغب بها وتستلذّ بها …. لقد بدت رغبة الشاعرة واضحة وتجلّت في هذا التوجه المباشر للمحبوب ولعلّ الشوق قد بلغ بها مبلغا عظيما فلقد افتتحت نصّها بالفعل المضارع(أشتهي)
والذي ألحقت به ياء المتكلّم للتعبير عن ذاتها وهو مايكشف عن الفكرة الوجدانية التي ستبوح بها ثمّ خاطبت المحبوب(لأن الإنسان لايشتهي إلا ممن يحب) ب(صوتك) وكاف الخطاب ومادلت عليه من تركيز على الشخصيتين اللتان سيرد الحديث عنهما في النص الشاعرة ومحبوبها ونستشف من القراءة الأولى للنص أنه يدور حول شوق الشاعرة للمحبوب وللذكريات التي تجمعهما فالحنين عنقودٌ والذكريات كرم وهي ستسرق!لماذا السرقة؟
لأنها تخاف الناطور البغيض ناطور الكرم وهو الخصام ومايحمل في جعبته من حزن وهجر وفراق وتخاف على نفسها أيضا فضيحة الاشتياق لما للأنثى من عزّة وحياء يمنعانها من ملاحقة وطلب من تحب ستتجاوز أحلامهاالتي منعتها وأخافتها من عدم اللقاء بل ستسحقها لكن سلتها الخاوية من القطاف ملأتها الخيبة والانكسار والحسرة فتركتها مرميّة بين ماكان نابتا في قلبها ورغبتها من أمل وانتظار وبين حقلة الأماني والأمنيات ويبقى الأمل قرين الأمنيات …….
ولكن قلبك أيها المحبوب سيملأ سلتي بالحبّ والغرام ويعيدها ألي بنكهات الهيام المترع بالوفاء هذ الغرام الذي تحلّيه القبلات نعم فقلبك أيها الحبيب سينسى كبرياءه وبما أنه قد حفظ ويحفظ كلَّ الطرق المؤدّية لروحي سيأتيني محمّلا بالشوق والعشق والحب فالحبُّ الراسخُ فيك كافٍ ليقودك إلي. …… الفكرة العامة للنص:اشواق المحبوبة لمحبوبها والأمل برجوعه إليها. ….
لقد برعت الشاعرة في خلق صورة إسقاطيّة في النص أضفت جمالية رهيبة عليه.والتي جعلتني أسمّيها(الطفلة العاشقة) وهذه الصورة هي الكرم وأعنابه وأعشابه والتسلل إليه لسرقة عنقود كما يفعل الأطفال عند حلول الرغبة بهم وخوفهم الكبير من الناطور الذي يحرس الكرم
وكما يحدث كثيرا من رمي للسلة في حالات الخوف والهرب كي لايعاقبوا أو يفتضحوا فيعيّروا بفعلتهم المخالفة للقانون هذه الصورة التي بني عليها النص ككل جعلت القارئ يتتبع الأحداث نقلة نقلة أعادته للطفولة بلطف مبهر وخصوصا بالأرياف التي تكثر كرومها وبساتين الفاكهة فيها هذا الاستحضار للطبيعة وإضفاء نفسية الكاتبة عليها والاندماج العميق بينهما هو ماولّد هذا الشدّ القوي لإعادة القراءة مرات عديدة ……….
الرمز والإيحاء:لقد استعانت الشاعرة للتعبير عن مشاعرها ومكنونات نفسها بالرمز ودلالاته وإيحاءته فكثر الرمز وتكثفت الصور وكل ماورد من ذكر لأنواع الفاكهة وعناصر الطبيعة حمل رمزا ذو دلالة واضحة محددة كما أن تجسيد اللهفة على هيئة إنسان او فتاة لها أصابع واقدام تتسلل عليها لها رمزية واضحة كنّت بها عن مقدار وحجم الشوق المكنون وخرارته المحبوسة بداخلها وفي قولها على سبيل المثال لا الحصر(كرم الذكريات)
أي الذكريات كرم (تشبيه بليغ) رمزية ودلالة لما كان بينها وبين المحبوب من أيام وأحداث طويلة مديدة تدل على طول المعاشرة والمصاحبة وعمق العلاقة بينهماوقرب المسافة. وفي قولها(عنقود حنين)إيحاء عظيم لهذا الشعور العاطفي المتكدّس بنفسها وقلبها كالعنفود المكتنز(وكم يعكس من ارتباط نفسي لدى القارئ بين العنقود والانثى) ومايدلّ على نضوج هذا العنقود هذا الحنين الذي لم يعد يحمله غصنه ولاقلبها! ونذكر أيضا(ناطور الخصام)
فالخصام ناطور هذا الإيحاء البليغ جدا الذي أوحى باختلاجات نفسها وخوفها من خصام المحبوب التي تتعدد وتتشعب أسبابه والظروف المؤدّية إليه. وكأنّه الناطور الذي يخيف الكبار ويرهب الأطفال. والأمثلة كثيرة جدا(فزاعة الأحلام)(فضيحة الاشتياق)(اشواك الكبرياء) …..
الحداثة في المعنى: نرى أنّ الشاعرة أحدث انزياحات عميقة في اللغة ونسبت المحسوس للمعنوي فتركت القارئ يستفسر ويبحث غير مطمأن لوصوله للمعنى المراد والخيارات واسعة أمامه في الفهم هذه الضبابية الممتعة والمبتكرة جذبت القارئ كانجذاب النحل للدوحة المتعددة الأزهار وماتخبئه من انواع الرحيق الشهي وخير مثال نذكره هنا(عن ظهر حب)
وهو تركيب جديد مبتكر حمل من الإثارة الكثير والشدّ والتفكير ولعلّنا نقف هنا أمام أهم مميزات الشعر الحديث البعيد عن التصريح والتعبير الحرفي والمعتمد بكنهه على الإيحاء والرمز وتغيير العلاقة بين الدال والمدلول في الألفاظ والمفردات فالفاكهة والعنقود والاعشاب والتين وغيرها لم تعد مفردات مقتصرة على واقع واشياء مادية محسوسة ملموسة تدركها الحواس الخمس المعروفة بل ادخلتها الشاعرة لعالم المعنويات التي تدركه المشاعر والعقول والأحاسيس ورغم أنّ الشاعرة أبرزت نفسها كمحور للأحداث والمحبوب صنوها ورغم الخطاب المباشر
وفي النهاية لابدّ من قول كلمة حقّ تنصف هذا النص الجميل فهو أشبه بمجرّة تتلألأ نجومها يبهرنا جمالها واصطفافها دون عناء ويعجزنا اللحاق بنجومها وتعدادها أو تتبع حركاتها لكننا نستمتع بهذا الجمال المتراكم وهذا اللطف في ظهورها وحركاتها وبريقها. لقد أبدعت الشاعرة إبداعا جليا نمّ عن ثقافة واسعة وتمكّن في التعبير وليس غريبا أن ننسبها لمدرسة الحداثة بقوّة فقدأبهرتنا وأطربتنا بما يستسيغه السمع ويتلقاه الإحساس ويتفكّر به العقل دمتم ودامت أديبتنا بألف خير … بقلم: باسم السليمان

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى