
قصة قصيرة بعنوان: “خيبة أمل”
بقلم . يوسف الفرساوي
جميل الملبس، مهترئ الجسد، وجهه الشبابي تملؤه بقع سوداء داكنة، وتجاعيد سبقت أوانها تحوم حول عيناه اللامعتان، وحاجبان بارزان مقرونان كثيفا الشعر، وأسنان معوجة، تظهر عيبها ابتسامة، مرتديا حذاء مكسوا بالتجاعيد مال لونه الأسود إلى الرمادي، وقميص أبيض أعياه الاتساخ، مستغربا منبهرا يتتبع طول الشارع بنظراته، وفيلات متراصة، أمام كل واحدة شجرة زيتون وأخرى ليمون.
يقف متأملا نظافة الشارع، يتذكر قريته فيبتسم، مستغربا من الألوان الزاهية للفيلات، وزخرفاتها المتنوعة، وأشكالها الهندسية المتعددة، لا بشر يسير في ذلك الشارع، والمار منه يظن أنه مهجور من صمت المكان المدقع، لولا سحر المكان وأناقته، في ظهيرة حامية يتابع طريقه بدون قبعة، يتصبب عرقا، ينهمر عرقه على ملابسه، يشعر بحر الشمس يقترب منه، يلتفت يمينا وشمالا، يخشى النظر للأعلى، مسرع الخطوات راجيا الوصول للمكان المنتظر حيث زميله ينتظره.
متبعا خطوات ظله، خاشعا من فرط الحرارة، رافعا رأسه لرؤية بقية الطريق، يصدم من هول المشهد، جسم ممشوق، بياضه ناصع، تتضح تفاصيله كلما اقتربت منه، وشعر أسود اللون، لا يتجاوز الرقبة، وجه طفولي، عينان عسليتان، وحاجبان معقوفان.
مدققا النظر في وجهها باحثا عن عيب يشوبه، وهل للعاشق عين أو بصيرة؟ بتنورة تظهر ساقيها، مرتدية صندل يعكس بساطتها وأناقتها، وأظافر اصطناعية مطلية باللون الوردي، شاردا يتتبع تفاصيل جسمها، لم يشعر حتى وقف أمامها.
في مشهد بطيئ ينظر إليها من أسفل قدميها، مخترقا جسدها، وعابرا له، تشل الصدمة حركته وتفكيره، ومحاولا نظم كلماته وعباراته، مبعدا كلماته السوقية الموجودة بقاموسه، يحاول النطق بما جادت به قريحته يتمتم في نفسه فاقدا التركيز، في لحظة تقع عيناه في عيناها، فيسقط مغشيا عليه.
عائدا لوعيه على همسات كلام ناعم يقول:” سيدي.. سيدي، هل تسمعني؟”، وترش وجهه بقطرات ماء لعلها تعيده لوعيه، مستمعا لا يجيب يردد في نفسه:” لا أريد الاستيقاظ، أتركوني أتلذذ بهذه اللحظات”، معتقدة أنه في غيبوبة تحاور نفسها:” لابد لي من الاتصال بالإسعاف”، تابعت مستطردة وتمعن النظر فيه ملامحه الشاحبة:” واضح أنك أجهدت نفسك في هذه الحرارة المرتفعة، فأصبت بضربة الشمس”.
مرددا في نفسه:” لا تعرف بأن عشقي لها في هذه اللحظة لا طبيب ولا دواء له”، تتحسس جيبها لتخرج هاتفها للاتصال بهم، فيستيقظ متظاهرا بالذعر، تساعده على النهوض، يستغل الفرصة يمسك يدها، يعطيه الإمساك بها أملا في أن القادم أفضل، خائفة هادئة تناديه:” انهض يا سيدي بجوار البيت، حيث ظله، فقد أغمي عليك في الحرارة”، بجيبها :”لا مشكل، نحن المكتئبون من الوحدة جفت أجسادنا من الإحساس بالحر أو البرد، نتوه في أصقاع الأرض، لعل أحدا يشفق علينا”.
متكئا عليها تجيبه:”واضح أن الحرارة أثرت عليك، لا تعرف ما تنطق”، بسرعة يقاطعها:” بالعكس أعرف كل شيء، ما أجهله هل سأعود للقرية؟، يتساءل في نفسه حائرا :”هل هذا الجمال رباني أم اصطناعي؟” باحثا عن الجواب يدقق في تفاصيلها، تنعدم في وجهها مساحيق التجميل، يصدم، فيعاود التدقيق، تستغرب من نظراته تحاول الاستفسار عن السبب، والخوف من الإحراج يمنعها؟
متظاهرا بالعطش، طالبا كوب ماء، مسرعة تحاول تلبية الطلب، مستغلا فرصة غيابها، يحاول نظم عقد من كلمات، اعترافا بهيامه، فلا وقت له للوجد ولا للعشق، مرتشفا قليلا من الماء، وهو على مشارف الاعتراف، يدقق النظر في تفاصيلها من جديد، يستعد للنطق بالكلام الموعود،
في لحظة صمت يفتح باب الفيلة ببطئ، في مشهد يحبس الأنفاس، طفل صغير فاتحا الباب، والوسن يداعبه، يتبادلا النظرات باستغراب، في أجزاء من الثانية تبادرت إلى ذهنه كل الاحتمالات، فنادى:” ماما .. ماما”، فكانت صدمة النداء قوية، حمل أحلامه وهيامه، وراح يردد:” انتكاسة جديدة أضيفها لسيرتي، سأخبر الله وصديقي بما وقع”.