اتبع أو لا تتبع شغفك !!

اتبع أو لا تتبع شغفك !!
د. عبادة دعدوش
متوقَعٌ اندهاشك، أو لنقل استنكارك، عزيزي القارئ، لما قرأته الآن في العنوان.
كيف لا ونحن بمجرد أن تمرّ على مسامعنا كلمة شغف؛ تنتشي وتتراقص مشاعرنا لها طرباً ؟! فالصورة الذهنية لها عندنا لطالما ارتبطت بمعنى الحماس والاتقاد والإيجابية.
فهل حقاً الشغف أمرٌ إيجابي بمطلقه؟
لكن لحظة..
أولاً ما الشغف؟
الشغف في العربية هو ما يغلّف القلب. ويتوضّح معناه من خلال علاماته، وهي:
أن يذوب فيه الوقت ،فتمارِسه دونما شعور بتوالي الدقائق والساعات، حتى عندما تتركه تكون مجبراً أو مضطراً لذلك. كما أنّه يشغل الحيّز الأكبر من تفكيرك ، فلا تكاد تفكر إلا فيه.
مفاهيم الشغف :
لتتبيّن إيجابية الشغف من عدمها؛ عليك التعرّف على بعض المفاهيم المرتبطة به. وهي:
١- الشغف بين الجهد والإبداع:
كل أعمال الحياة التي يزاولها الإنسان، تكون في إحدى دائرتين:
الأولى، هي دائرة الإبداع، أي عندما تنجز إنجازاً كبيراً، بجودةٍ أعلى ومتعةٍ أكبر، وبوقتٍ وجهدٍ أقل.
في حين أن الدائرة الأخرى، وهي دائرة الجهد، قد تنجِزُ فيها عملاً كبيراً، إنّما بجهدٍ أكبر ووقتٍ أطول ومتعةٍ أقل.
وبهذا المعنى؛ نستطيع أن نطلق على دائرة الإبداع اسم دائرة الشغف. فمن يملك الشغف بشيءٍ ما؛ قد يسبق بأشواطٍ الآخرين إن هو أراد ذاك.
وكمثالٍ يقرّب المعنى أكثر، إنّ الفرق بين الدائرتين كالفرق بين أداء كريستيانو وميسي.
فكريستيانو بمثابرته نافس ميسي واجتازه أحياناً، رغم أنّ أداءه يقع في دائرة الجهد، ولو أنّ ميسي استغل شغفه وثابر أكثر؛ لما تخطاه أحد!
٢- الشغف والسعادة :
هل سمعت يوماً بهرمون الدوبامين؟
نعم، بالتأكيد إنّه هرمون الشغف، المسؤول عن تعزيز الشعور بالسعادة. ولكن هل كنت تعرف من قبل أنّ الدوبامين نوعان؟
نوعٌ ينتج من المادة السوداء، مسؤول عن توليد حركة الجسم، وحينما يتوقف يصاب الجسم بالشلل. وهو ما نسميه ( الشغف الإنتاجي).
ونوعٌ آخر، ينتج من المنطقة السقفية البطنية، يعطي الشعور باللذة (عند الحصول على المكافأة)، كشعورنا عندما نتناول الشوكولا. ونسميه (الشغف الاستهلاكي).
والإفراط بالدوبامين الإنتاجي، هو الشغف الحقيقي. ذاك الاتقاد الذي نلحظه في عيون الناجحين بأعمالهم، المستمتعين بها، مهما طال بهم الوقت.
إنّما الخطر الحقيقي يقع؛ حين الإفراط بالدوبامين الاستهلاكي، حيث يخبر الدوبامين الناتج عن هذه المنطقة، أن الدماغ يستحق الحصول على المزيد من محفّزاته مما يؤدي إلى الإدمان.
وهنا نستذكر شغف امرأة العزيز بنبي الله يوسف عليه السلام، الذي عبّر عنه القرآن على لسان نسوةٍ في المدينة : {قد شَغَفها حبَّاً } ، إذ لم يدّمر حياتها فحسب؛ بل أضرّ بالنبي الكريم أيضاً، وقِس على ذلك.
والخبر المؤسف حقاً؛ أن أغلب الناس شغفهم استهلاكي. بدءاً من شرب القهوة، وليس يقف عند حدّ الإدمان لوسائل التواصل الاجتماعيّ !!
لكن ما سبق لا يعني أن الشغف الإنتاجي في جميع أشكاله إيجابي، وإلا لما أطلقنا تسمية هاكر القبعة السوداء Black Hat Hacker على الشخص الشغوف باختراق أمن المعلومات والشبكات بقصد التخريب !
و تصعب متابعة المقال هنا؛ قبل الوقوف قليلاً عند نقطةٍ يأبى الحقّ تجاورها، ألا وهي :
اتبع شغفك!!
هل عرفتها؟ إنها العبارة السحرية التي يكرّرها العديد من كتّابِ ومدربي التنمية البشرية في محاضراتهم.
ماذا لو تجرأ أحد الحضور مرّةً وأخبرهم أنّ شغفه لعب القمار !!
هل تخيّلت الموقف؟!
قد تتساءل الآن: ماذا نفعل إن كان شغفنا سلبيّاً؟
الجواب تلخصه القصّة الآتية
سعيد شاب يعشق الكذب، واختلاق القصص الخيالية والإثارة عن حياته و حياة الناس من حوله.
قرر التغيّر ، فأصبح كاتباً !
وأبُشرك بلغ الشهرة اليوم.
كيف تفقد شغفك؟
أربعة أمور التزم بها، وأضمن لك فقدان الشغف تماماً.
١- الفراغ:
مصنع التافهين، المحبطين، المهمشين، والمأوى المحبب لكل السلبيين.
وللوقت في شغله أنواع :
شغل وقت الفراغ بالفراغ :
حيث الدمار النفسي، الروحي وحتى المادي.
وكما يقول الشاعر:
لقد هاج الفراغ عليكَ شُغلاً وأسباب البلاء من الفراغ.
ملء الفراغ بتضييع الوقت:
أقتل وقتي بالتلفاز، الموبايل، النوم، التسلي مع أصحابي بورق اللعب..
أليست هذه الأجوبة المألوفة، التي نسمعها كثيراً عن سؤال: ماذا تفعل؟!
هي إجاباتٌ صحيحةٌ تماماً، لكن فقط مع استبدال وقتي بكلمة عمري!!
ملء الوقت بأي شيءٍ إيجابي ، دون تنظيم :
فلتقرأ الروايات العشوائية، تشبّع ما استطعت بشتى المعلومات. أنجز كل المهمات في النوادي والعمل، ومارس المهن أو حتى الهوايات..
المهم افعل كل إيجابي ونافع، إنما بغير هدًى أو تخطيط. لكن قبل أن تفعل هذا، تذكر قوله تعالى { أَفَمَن يَمْشِى مُكِبًّا عَلَىٰ وَجْهِهِۦٓ أَهْدَىٰٓ أَمَّن يَمْشِى سَوِيًّا عَلَىٰ صِرَٰطٍۢ مُّسْتَقِيمٍۢ }
قتل الفراغ باستغلال الوقت لتحقيق الأهداف:
وهو الاستهلاك الأمثل للوقت، فما عليك سوى السعي لتحقيق طموحك الذي خططت له مسبقاً.
٢- التعلق :
ذلك حينما تتعلق بالمتغيرات، أي بالزمان والمكان والكيان، كالتعلق بتفاصيل ماضٍ حزين، أو مكانٍ لست أو لم تعد فيه، أو بأشخاصٍ انقلبوا عليك أو فرّقتكم ظروف الحياة.
وهذا أحد الدواعي التي جعلت العرب القدماء يرسلون أبناءهم صغاراً إلى البادية، كي يجنبوهم التعلق، فتقوى شخصياتهم.
على عكس التعلق، حينما يكون بالثوابت، كالتعلق بالله وبالرسالة.
٣- التطلع إلى المثالية:
الدافع الأول الذي يجعلنا لا نرضى إلا بالشكل المثالي، هو نظرة المجتمع وكلامه عنا. والمضحك في الأمر أن الناس في هذا المجتمع، إما غير مركّزٍ فيك، قد يتكلم، ثم ما يلبث أن ينسى.
أو أنّه لن يعترف بصنيعك، حت وإن قدمت له ماء البحر.
ففي البحث الدائم عن المثالية خطرٌ كبيرٌ، لأنّه قد يكون أول سببٍ يفقدك الشغف، حينما تحاول وتحاول، وتغيّر وتعدّل، ثم لا ترضى عما أنجزت، فيؤدي ذلك بك إلى الإحباط.
قدّم أفضل ما عندك، لكن لا تحصر نجاحك بالأداء المثالي.
فكم رأينا طلاباً في مرحلة الشهادة الثانوية، فاجؤونا بقرارهم عدم التقدم للامتحان قبل بدئه بأيام، والسبب أنهم اكتشفوا عدم مقدرتهم على تحصيل العلامات التامة !
٤- عدم التخصص :
من كان يظن أن الشغف يتطلب الخوض في جميع المجالات الممكنة، وتجريب أيّ منها ينفع معه، فقد ظلم نفسه كثيراً. حين أطلقها في عالم الشتات والضياع، وعدم الاستقرار والتركيز على مجالٍ محدّد ٍ.
ولو كنت كذلك، فستجد نفسك حينها بلا هويةٍ واضحةٍ تعرّف بها عن نفسك. قد تنجز في بعضها إنجازاتٍ متفرقة، لكنها ستظل محدودة، ولن تستطيع تطويرها إلى الشكل المطلوب، لأنّك ببساطةٍ لم تتفرغ لها، وتركّز عليها كما ينبغي.
هذا ونحن نعرف شغفنا، فماذا لو كنا نجهله؟
لتعرف كيفية اكتشاف شغفك؛ تابع معنا المقالات القادمة..