شعر و ادب

الجزء الثالث من قراءة للكاتبة سميحة المناسترلى في كتاب “نظام التفاهة”

محمود الهندي

عزيزي القارئ ذكرنا بالمقالات السابقة نبذة عن كتاب “نظام التفاهة” الصادر عام 2017م، للفيلسوف الكندي ( آلان دونو) خريج جامعة باريس، والمحاضر بجامعة كيبك بمونتريال، والذى قامت على ترجمته د. مشاعل عبد العزيز الهاجري اعتمادا على النسخة الأصلية بجانب الإنجليزية المترجمة، يتكون الكتاب من أربعة فصول “المعرفة والخبرة، التجارة والتمويل، الثقافة والحضارة، ثورة إنهاء ما يضر بالصالح العام، خاتمة الوسط المتطرف ” من خلال 368 صفحة، وقمنا قراءة ما احتواه الفصل الأول والثاني من الكتاب، نستعرض سوياً في هذا المقال ما تتضمنه الفصل الثالث .

قام الكاتب “آلان دونو” بعملية ربط واستشهادات متعددة لتعميق نظريته، وقد قدم أمثلة وأحداث معاصرة بكندا وأمريكا ودول الغرب، كاشفا عن ما يتم استخدامه لتعميم وتجذير نظام السطحية والتفاهة داخل الشعوب والمجتمعات، كمنهج متفق عليه ضمنياً بين الأنظمة ورؤس الأموال المتحكمة في اقتصاديات الدول وتوجهاتها السياسية من خلال أحكام قبضتها على عناصر القوة الناعمة المؤثرة في الفرد والمجتمع وهو “المستهدف لهذه الأنظمة” .

بداية بناءً على مبدأ د. “سيجموند فرويد” عرف الإقتصاد بمكوناته الأثنين، اقتصاد روحاني يعتمد على ما يمتلكه الإنسان من طاقات متنوعة غير مادية أو ملموسة مثل الروحانيات والحلة المزاجية والنفسية، الجوع والعطش، والرغبات الغريزية .. إلخ ، وإقتصاد مادي -الذى يستخدم – يقوم بإستغلال اقتصاديات الأول، لعمل صفقات تجارية محدودة من خلال تشريعات محددة للإنفاق، تمثل النقود دور الوسيط الذي يلعب دور فعال، لفرض السيطرة على الشغف الروحي والغريزي وترويضهما، ليصبحا شيء روتيني معتاد، وتعتبر النقود الوسيط المادي المحفز الذى يمكنه إخضاع الفن، والتحكم في سيكولوجية الثقافة، وتوجيهها لنشر وازدهار عصر التفاهة في أعظم حالاتها لخدمة رأس المال الممول للمكونات الثقافية والإعلامية الهامة .

اعتمد الكاتب بعض النقاط التى حدد من خلالها عناصر “اللعبة” كما يطلق عليها وهي : رأي الأثرياء والمشاهير : هنا اتخذ الكاتب عائلة كندية شهيرة “ديسماريه” صاحبة مشاريع لها وجاهة اجتماعية واسعة، كمثل صارخ لاعباً دوراً اقتصادي وسياسي هام في كيبيك وكندا وفرنسا لعقود من وراء الستار– دون أي منصب رسمي أو اداري- هم فعالون ومن صانعي القرار، ولكنهم خارج الأطر السلطوية والمناصب الصريحة، بالرغم من انهم سلطة صامتة –مشفرة افتراضية- تحولية ، هم مختفون بمشاريعهم الضخمة وأموالهم، هم دائماً خارج أُطر المحاسبات القانونية والضرائبية .. !

ثم رأس المال الثقافي : وطبقاً لنموذج عائلة “ديسماريه” فإن الممول دائما على حق، كما أن رأس المال الثقافي يخضع أو يوظف لمنافع تعود على الممول، لتزيين مشاريعه وصورته، وخلفية أصوله، له أهداف بعينها بتمويل مسرحيات ودراما ودعايا متنوعة، ولا اعتبار لأى منافع حقيقية تعود على الفرد، لأنه هو الهدف المنشود استغلاله، إذن فالرسالة تعتمد على التسطيح وصنع تاريخ زائف والإستغلال .

لا اعتبار للفنانين: اتخذ الكاتب من المخرج والمنتج الأمريكي الأكثر شهرة بعالم هوليود “أورسون ويلز”، والفنانة واسعة الشهرة “سيلين ديون” كنموذجان تم استخدامهما لحشد الجماهير الغفيرة وتوجيهها من خلال موهبتهما، مشبهاً النجمان “بالسلع الثقافية” وأما الجماهير ب “كتلة الزبائن الداعمين”، هكذا نجد أن الفنان موجه لجلب الموارد، ومن هنا كانت نظرية الرأسمالية الثقافي : وامتلاك الرعاة لمعاهد، ومدارس، وكليات توفر دراسات وافية لطبيعة المنتج الثقافي، وكيفية الإدارة والتوجيه للعروض، والأعمال الفنية المتنوعة أو السلع الرمزية، وهذا ما يجعل لأتباعهم مقعد دائم وأساسي داخل مجالس الإدارات .

بورتوريه للفنان كعامل اجتماعي : ذكر الكاتب هنا كيفية استغلال الفنانين ومشاهير الإعلام في التغطية على الكوارث، والأزمات التى تنتج عن الإهمال والتقصير لهذه الهيئات التى تمتلك المشاريع الضخمة، حتى تشتت انتباه ووعي أفراد المجتمع عن الأخطأء الفادحة، ضارباً المثل بكارثة انفجار قطار ملىء بالنفط الخام، وسقوط عدد كبير من الضحايا والمصابين، غير ما حدث من تلوث بيئي مدمر للبيئة، وحرائق بمنطقة “لاك ميجانتيك” 2013م فقامت السُلطة باستدعاء فنانين ومشاهير لدعم أسر الضحايا والمصابين، لصرف الإنتباه والأنظار عن جريمة الإهمال، بجانب استغلال الكارثة في الترويج عن اعادة اعمار للمنطقة من خلال تلك الشركات وغيرها من المستفدين، ومن اتهموا بعد ذلك بقضايا فساد كبرى .

علاقة منفصلة عن الواقع: ويلخصه الكاتب بإعطاء نموذج لدور البرامج التليفزيونية في فصلك عن الواقع الجمعي، بل هو يجهز لك واقعاً معداً مسبقاً، فتجلس أمام وجبتك مبتلعها كوجبة طازجة واقعية، ويستمر نشر النظام التافه من خلال الشاشة، مع قليلُ من المعارف الحقيقية التى يتم تشتيت المشاهد عنها كالقضايا الهامة، بعملية اغراق بإعلانات استهلاكية سفيهة أو برنامج كوميدي تافه .

الفن التخريبي: نموذج للفنون الإباحية، أو التى تدعو لأفكار “صادمة” حرفياً ومماراسات شاذة، بعيداً عن المتعارف عليه من خلال ديانات أو موروثات إنسانية، إلى أن تصبح اعتياد متوغل بطيات المجتمع بكل أريحية كأمر واقع، محولاً فكر الفرد وثقافته للإنقياد للغرائز وإلغاء العقول .

نظرة كارتونية للعالم : اتخذ الكاتب من عرضا أقامه الفنان التشكيلي “ميتش ميتشيل” لحاويات كرتونية خاوية، تم ترتيبها ورصها بطرق وأوضاع مختلفة كنموذجاً لتطور استخدامات نظم التجارة والحاويات قديما وحديثاً ( فقد لعبت هذه الحاويات أدوار متباينة من التجارةوالنقل ما بين مشروع وغير مشروع، فقد احتوت على أسلحة مرات، تجارة البشر مرات، بضاعات مشروعة كلعُب الأطفال أحياناً وغير ذلك الكثير) ! خاتما بقوله: “صوراً لتطبيقات خاصة بتحويلات مدهشة لهذه الحاويات، بلغ من فاعليتها أننا نخاطر معها بنسيان الواقع المظلم للإقتصاد الذى تخفيه هذه الإستخدامات المقترحة” .. متمنياً أن يأتي اليوم الذي يمكن تطهير معناها لتكون مجرد شىء من الماضي .

تحياتي وإلى لقاء قادم وقراءة للفصل الرابع والأخير للكاتب والفيلسوف الأكثر جدلاً “آلان دونو” في عصر نظام التفاهة .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى