الجزء الثانى من الحقائق المدفونة: بقلم*رقيه فريد.*

اليوم نستكمل قصة “الجمال القاتل” من مجموعة قصص “الحقائق المدفونة”.
بعد أن استيقظت سارة على صوت يناديها بأسمها وتتبعت هذا الصوت حتى خرجت من بيته واذا بها أمام بيت شبه مهجور فدخلته لتجد شاب
مٌلقى علي ظهره فوق سرير مغطي بقطعة قماش تغمرها الدماء ثم طلب منها أن تساعده في كشف الحقيقة.
شعرت سارة بخوف ورعب شديد، ولكن كان لديها فضول وإصرار على كشف الحقيقة الغامضة..
قالت له: قتلك أنت! مَن قتلك، وكيف يُمكنني مُساعدتك، ولماذا أنا؟!
قال لها: سأروي لكِ ما حدث لي، ولكن أولًا عليكِ أن تعدينني بأنكِ سوف تمدي لي يد العون؛ لتظهري تلك الحقيقة المدفونة.
قالت لهُ: نعم، إن كان ذلك في استطاعتي.
قال: قبل ذلك الحادث بعدة أشهر، وفي إحدى الأندية الاجتماعية حيث كنت أمارس لعبتي المفضلة.. وهي الكرة الطائرة، تعرفت على شاب يُدعى “هشام” في إحدى المباريات وصرنا صديقين، فأنا اعتبرته أخًا لي؛ فقد كنتُ وحيدًا أعيشُ مع أمي بعد وفاة أبي في حادث سيارة.. مُنذ عشرة أعوام، عكفت أمي على تربيتي ولم تتزوج، فهي عاشت لي وحدي، وأنا كنت لها الأمل في هذه الحياة..
وفي أحد الأيام، دعاني هشام لتناول معه الغداء والتعرف بأسرتهُ، وأصر على ذلك، وبعد رفضي.. وافقت في نهاية الأمر، اعتقدت أنه يريد أن يعرفني بوالدهُ ليعوضني عن فقدي لأبي، فذهبت إليه في الموعد المُحدد، فقدم لي والدهُ وقال أنهُ يعمل طبيب بشري، ويدعى ” ماهر”
رحب بي والدهُ، وقال لي: هشام تحدث معي عنك كثيرًا، يقول أنك شاب على خُلق، وذلك يجعلني أطمئن على سلوك ابني؛ فأنت تعلم هذه الأيام وما فيها من فِتن، وأصحاب السوء. قلت لهُ: نعم أعلم ذلك، فاللهم نجنا من الفِتن.
قال هشام: ماذا تُريد اليوم على الغداء؟
فقلت له: آكل مما تأكلون منه، فلا مانع عندي.
فتركني هشام مع والدهُ وذهب ليطلب من الخادم تحضير الطعام..
قال لي والدهُ: إن هشام هو الأبن الأكبر والوحيد لي، فزوجتي توفت بعد ولادة ابنتي هند بخمسة أعوام، فهِند الأخت الوحيدة والأصغر لهشام.
حديث والد هشام جعلني في ذلك الحين أشعر أن هند تشبهني كثيرًا، فهي نشأت مثلي، فأنا حُرمت من أبي وهي حُرمت من أمها، وتمنيت رؤيتها من خلال حديثه عنها، فقد وصفها بأنها جميلة ورقيقة، حساسة جدًا، وأنه يُحبها أكثر من نفسهِ، ويحاول أن يعوضها عن فقد أمها بكل ما يستطيع، جاء هشام ليقول لنا أن الطعام جاهزًا الآن، جلسنا جميعًا لتناول الغداء، تمنيت أن أراها وأردتُ أن أسال عنها، ولكنني استحييت وانتظرت حتى تأتي، ولكن فقدت الأمل..
لم يمضي من الوقت كثيرًا ولكنه مَر عليَّ طويلًا، ثم حضرت هند.. دق قلبي حين رأيتها، فهي أجمل مما وصفها والدها، شعرها بلون الذهب، ملامحها بريئة، لا تستخدم مساحيق التجميل فهي الجمال ذاته، عينيها تشبه الروضة الخضراء، فمها كعنقود، فرنسية القوام، ترتدي ثوبًا وردي اللون، فقد أخذت قلبي وروحي مِني، أعجبت بها قبل أن أراها، وأحببتها بعدما رأيتها، وشعرت كأني أعرفها منذ ولادتها، وكأن روحي تقابلت مع روحها منذ خلقها الله، سَلّمت على والدها وقبلتهُ وكأنها عائدة مِن سفر..
قال لها هشام: هذا صديقي وأخي باسم.
نظرت لي وهي تبتسم ابتسامة بها خجل، وقالت: أهلًا باسم.
قلبي كاد أن ينخلع من مكانهُ عندما نطقت باسمي، وكأني لأول مرة أسمعه، كنت أجلس أمام الطعام ولا أرى أحدًا غيرنا على تلك المائدة، لا أشعر إلا بها، ولا أعلم ولا أدري ماذا حدث لي ذلك اليوم!
وبعد أن فرغنا من الغداء جلسنا لتناول الشاي، وفجأة وجدتني أنا وهي بمفردنا، فقد انشغل والدها بالهاتف الذي جاء له من المستشفى، وصعد هشام لتبديل ملابسهُ للخروجِ معي، وصار بيننا حديثًا نصفهُ كلام باللسان والأخر بالعين، فكنت أرى في عينيها وهي تُحدثني وِرودًا، وأنغامًا، وألحانًا، وأيضًا أحزان، أبحرت في عينيها، أغرقتني دون أن أدري..
ثم جاء هشام وأخذني معه إلى النادي، ولكنني كنت في وادي آخر ولا أُبالي بما يقولهُ لي، وظللت هكذا حتى فارقتهُ وعدت إلى البيت، كانت أمي تنتظرني على العشاء، فهي تعرف أني مَدعو على الغداء عند صديق لي..
قالت لي أمي: أراك اليوم بشكلٍ آخر.. وجهك مُشرق، فهل هذا يرجع إلى نوع الطعام الذي أكلتهُ في الغداء؟
ابتسمت وقلت لها: لا، بل يرجع إلى مَن شاركتني الطعام.
تعجبت أمي وقالت: مَن تكون جميلة الوجه؟
قُلتُ لها: وكيف لكِ أن تعرفي أنها جميلة يا أمي!
قالت: أرى جمالها طابعًا على وجهك.
فقلت لها: صدقتي يا أمي، فأنا أشعر أن روحها مُزجت بروحي، ولا أعلم ماذا حدث لي مُنذ سمعت عنها ورأيتها.
قالت لي مُتسائلة: مَن هي، ومَن أهلها؟
قلتُ لها: هي هند.. أخت صديقي هشام الذي حدثتك عنه مُنذ أيام، والدها يعمل طبيبًا.
ربتت أمي على كتفي وهي تبتسم، وتُقبل رأسي وتقول: أحضر لك العشاء، وأعود لك لتحكي لي مِن البداية.
وتركتني وأنا أعيد مع نفسي ذلك المشهد الذي جاءت فيه هند أمامي..
***
مرت الأيام وكنت أذهب كل يوم إلى ذلك النادي لمقابلة هشام وهند، فهي أيضًا بدأت في التردد على النادي كل يوم، وصار بيننا أحاديث كثيرة ومقابلات، حتى ذلك اليوم الذي لملمت بهِ نفسي واستجمعت قوايَ، وأخذت نفس عميقٌ ثم قلت لها: هند أنا أحبك.. أحبك مُنذ اللحظة الأولى لكِ بهذا العالم.
نظرت بدهشة يملأُها الخجل وحُمرة في الوجه، وقالت لي: ماذا تقول!
قلت لها: أقول ما أشعر بهِ قبل أن ألقاكِ، وبعد إن التقيت بكِ في ذلك اليوم الذي عبرتي فيه إلى عالمي، تَغيرت بداخلي أشياء، لم تكن لتتغير إلا بمعجزة.
قالت هند: وما هي؟
فقُلت لها: جعلتيني أحب الحياة، أرى الدنيا وكأنها تبدلت ألوانها؛ فأصبحت بِلون وِرودك.
خفضت رأسها لأسفل بخجل وابتسمت فَرحًا، ثم رفعت رأسها ونظرت بعيني وقالت: أنا أيضًا أحبك يا باسم، ولدي نفس الشعور مُنذ أول لحظة بيننا.
فسررتُ جدًا بما قالته، وقلت لها: أحقًا يا هند تُحبينني! أنا أسعد مخلوق على وجه الأرض الآن، أشعر بدقات قلبي تكاد تنطق معي وتُردد أحبك.. أحبك.
ثم تغير وجه هند وقالت لي: لم أكن أعلم أن القدر سيجعلني أحبك إلى هذا الحد، ولا كان في حسباني أن أتعلق بك لهذه الدرجة، ولا كنت أريدهُ.
فنظرت إليها وقلت: لماذا تقولي هذا الكلام، وماذا تقصدين بهِ!
فصمتت كثيرًا، ثم قالت لي: أقصد أنهُ… لا أعلم ماذا أقول لك..!
فقلت لها: قولي أي شيء تُريدين اخباري بهِ، أنا أستمع لكِ.
قالت هند: هُناك أمور لا أستطيع قولها، ولكن سأقول لكَ شيء آخر، هُناك عقبة في طريقنا.
قلت لها: عبقة! ما هي، ماذا تقصدي!
صمتت لبُرهة ثم قالت: تحدث صديق أبي معهُ بشأن ابنهُ، فهو يريد الارتباط بي.
فشعرتُ وقتها بِغصة بقلبي، وقلت لها: هل وافق والدكِ عليه؟
قالت لي: لا، فأنا التي لم أعطيهُ رد حتى الآن، وانتظرت حتى أتأكد من مشاعري نحوك.
فابتلعت ريقي وأخذت نفسًا عميقًا: إذًا لا يوجد عقبة الآن، أبلغي والدكِ أنني سوف أحضر إليهِ غدًا لأطلب يدكِ، وإن وافق.. أُحضر والدتي ونتمم الزواج.. فرحت هند ومر الوقت سريعًا بيننا، وكأن القدر يقف لنا خلف الأبواب، لتحين تلك اللحظة..!
**الصدمة الاولى**
قالت سارة بعد ما استمعت إلى حديث باسم: ما هي تلك اللحظة، وماذا حدث! هل رفضك والد هند؟
قال باسم: لا بل على عكس ما توقعت..
في مساءِ ذلك اليوم اتصلت بي هند لتقول: إن أبي ينتظرك غدًا في مكتبهُ، ولكن بدون والدتك، فهو يُريد أن يتحدث معك أولًا.
فقلت لهند: إذًا هو وافق على الارتباط؟
قالت لي: لا أعلم، ولكنني قلت له إنني موافقة عليك، فقال لي أخبري باسم أنني أُريد مقابلته غدًا، في تمام الساعة السادسة مساءً.
فذهبت لأطلب يدها من والدها، ولكي أعرف ما يُريد قولهُ، فرحب بي والدها وأثنى على أخلاقي، ولكنه قال لي: أنت تعلم مَن هي هند بالنسبة لي.
قلت له: نعم أعلم، وهي لا تقل عندي شيئًا مما هي عليه عندك.
فقال لي والدها: أعلم ذلك، ولكن أريد أن أُطلعكَ على سِرًا، قبل أن أُعطيك كلمتي الأخيرة بالموافقة.
قلت لهُ مندهشًا: سِر! ما هو ذلك السر؟
نظر لي بحزن، ثم قال: هند مريضة، وتحتاج إلى نقل كِلى في أسرع وقت، ولا أجد لها مُتبرع ولا بائع بالمالِ لأشتري منهِ.
قلت لهُ: ولكنها لم تُخبرني بذلك!
فأخبرني والدها قائلًا: هي مريضة، ولكنها لا تعلم شيء عن تدهور وخطورة حالتها، أخفيت عليها الأمر حتى أتمكن من إيجاد حلًا لها أولًا، ثم أخبرها قبل موعد إجراء العملية.
صمتُ قليلًا وفي ذلك الحين شعرت أن صاعقة من السماء نزلت عليَّ، وتذكرت حينما كنا معًا بالنادي وقالت أنها تَشعر بألم، وتريد أن تعود إلى البيت، ولكنني وقتها لم أنتبه لذلك، أحقًا لكل هذا الجمال والبراءة أن تعيش أصعب أيام عمرها! ماذا تفعل أو تقول إذا علمت بأمرها، وما الذي أقدر أن أقدمهُ لها..!
وعلى الفورِ وبدون تَردد قلت لهُ: أنا سوف أعطي لهِند كِليتي.
رد والدها قائلًا: أنت!!
قلت: نعم أنا.
فقال لي: لا، مُستحيل.
نظرت إليه وقلت: ومَن أقرب لهِند مِني.. وأنا أفديها بروحي، أرجوك.. فلا معنى لحياتي بدونها.
فقال: يا بني، ربما تكون هذه العملية تُشكل خطرًا على حياتك.
فقلت لهُ: حياتي! وما فائدة حياة ليس بها هند، ولكن لي طلب عندك، لا تُخبر أمي بشأن هذا الاتفاق الذي تم بيننا، فهي إن علمت ربما ترفض، فأنا الابن الوحيد لها، وليس لديها أحدٌ غيري، ولا أدري ردة فعلها إذا علمت، ثم إنني أخاف أن تُشعِر هند بالذنب يومًا ما بقصد أو بدون قصد، فأرجوك لا تُخبر أمي.
رد عليَّ قائلًا: ذلك أفضل، ولكن ماذا تقول لها؟
قلت: سوف أخبرها أنها رحلة مع أحد أصدقائي، ولن أذكر لها أحدًا بعينهِ، برغم أنها أول مرة لي أن أكذب على أمي أو أن اتركها وحدها، ولكن في سَبيلِ هند كل شيء يهون، ولكن.. متى موعد العملية؟
فقال: غدًا إن شِئت فلا مانع، ولا وقت للتأخير.
قلت: غدًا، بسرعة هكذا!!
فقال: نعم، فليس أمامنا وقت، وهناك إجراءات قبل إجراء العملية، تحاليل وفحوصات لك تستغرق أيامًا.
فقلت لهُ: وكم يوم تستغرق، يجب أن أكون على علم بذلك لِأخبر أمي بمُدة سفري.
فنظر لي ثم قال:
الفحوصات تستغرق خمسة أيام، وخمسة أخرى لكي تتعافى قبل أن تلتقي بوالدتك.
فقلت لهُ: نعم، فإن رأتني بعد إجراء العملية، وكان يبدوا عليَّ الإعياء، سوف تعرف كل شيء، والآن.. يجب عليَّ أن أذهب إلى البيت لأخبرها بأنني سأسافر مع أصدقائي في رحلة لمدة عشرة أيام، وأحضر بعض الثياب وأعود إليك غدًا، اسمح لي بالانصراف يا دكتور، وأشكرك على موافقتك على طلب يَد هند؛ ولأنك سمحت لي أن أنول شرف إعطاء جزء مِني إلى مَن ملكت قلبي وروحي.
فقال لي: تفضل يا بُني، في انتظارك غدًا، أنت شاب حقًا تستحق أن تكون زوجًا لابنتي الوحيدة.
تركته، وفي طريقي إلى البيت لأخبر أمي أنني مُسافر غدًا في رحلة، ظللت أفكر وأحدث نفسي: هل ستصدقني أمي، أم تخبرها عيني عما أخفيهُ عنها! لأول مرة أكون في تِلك الحيرة يا أمي، هل أخبرك لتكوني بجانبي في تلك اللحظات الصعبة.. وتقولي لي ماذا أفعل وهل أنا على صواب فيما فعلته، أم لا!
فهل يقبل “باسم” بالأمر ويجري العملية.؟
هل سيخبر أمه أو يتركها وهو الأبن الوحيد لها
أم يتخلى عن حبه الأول؟.
***
أنتظرونا الاسبوع القادم في الجزء الثالث من الحقائق المدفونة.