
الحشاشون.. الطائفة الشيعية الغامضة
الكاتبه -شيرين أبوخيشه
عندما ظهرت حركة الحشاشين في أفق التاريخ الإسلامي من الشرق في القرن الخامس الهجري لم يكن الخليفة العباسي يقبض إلا على خيال من سلطته السابقه وكانت الدولة الإسلامية المترامية
الأطراف ممزقة شر ممزق ذلك أن بلاد فارس وما وراء النهر وما يليهما إلى الشرق وإلى الجنوب خاضعة للأتراك السلاجقة وكان الفاطميون الشيعة في مصر قد توطدت أقدامهم حتى أصبح أمر تنحيتهم بعيداً عن أن يجول في خاطر بغداد وفي الأندلس ظهرت مجموعة من الدويلات الصغيرة على أنقاض الخلافة الأموية كان يسمى زعماؤها باسم ملوك الطوائف وكان شمالى الشام وأعالى العراق في أيدى بعض زعماء العرب المشاغبين الذين نجح فريق منهم في تأسيس دول خاصة وكانت الفوضى السياسية والحربية ضاربة أطنابها في كل مكان وكان الاضطراب السنى الشيعي هو روح العصر السائد في ذلك الوقت وخيل إلى الناس أن العالم الإسلامي قد دالت دولته لاسيما حرب الصليبيين بعد ذلك بفترة من الغرب ثم التتار من الشرق في وسط الاضطراب الذى كان يموج به العالم الإسلامي في القرن الرابع الهجرى ظهر زعيم يسمى سلجوق فدخل إلى مجمعة الصراع حوالى سنة ٩٥٦ م على رأس قبيلة من الأتراك وقد جاءوا من براري القرغيز في التركستان وكانوا قوماً بدواً أقاموا في منطقة بخاري التي اعتنقوا فيها الإسلام على المذهب السنى وتحمسوا له ثم أخذوا يقتحمون سبيلهم ببطء وبقدم ثابتة وعلى رأسهم سلجوق ومن بعده أولاده حتى تمكنوا من أخذ بعض ممتلكات الإيلخانات والسامانيين واجتراً أحد أحفاد سلجوق وهو الزعيم طغرل ب هو وأخوه داود فواصلوا زحفهم حتى أطراف خراسان وفي سنة ١٠٣٧م تمكن الأخوان من الاستيلاء على مرو ونيسابور من أيدى الغزنويين وسرعان ما ضموا إلى ممتلكاتهم كلاً من بلخ وجرجان وطبرستان و خوارزم وكذلك همذان والرى وأصفهان وتصدع أمام تفوقهم ثم شرعوا يمهدون السبيل لتقدمهم في المستقبل فأرسلوا وفداً إلى الخليفة القائم بأمر الله في بغداد ليبلغه أنهم يعتنقون الإسلام وكان الخليفة يرجو أن ينقذه هؤلاء المحاربون البواسل من سيطرة بنى بويه فأرسل إلى طغرل بك يدعوه المعونه ولبي طغرل دعوته فأقبل فى عام ١٠٥٥م ووقف على رأس جماعة من قبائل التركمان الغلاظ الجفاة يطوقون أبواب بغداد فبارح البساسيري القائد التركي والحاكم العسكرى لبغداد في عهد آخر البويهيين وأسرع الخليفة القائم إلى استقبال الفاتح السلجوق واعتباره منقذاً وقد غاب طغرل عن بغداد سنة ثم عاد إليها واستقبل استقبالاً حافلاً ولبس الخليفة البردة وجلس من وراء ستار حتى إذا ما وصل الفاتح رفع الستار وجلس طغرل على منصة إلى جوار منصة الخليفة وكان يترجم بينهما ترجمان وقد عين الغازي حاكماً للامبراطورية و نودی به ملكاً على الشرق ومن ذلك الحين دخلت الخلافة العباسية تحت رعاية جديدة لم يعد الخليفة معها يملك إلا الزعامة الدينيةوعندما غاب طغرل في حملة إلى الشمال انتهز الباسيري وكان حانت إلى الفاطميين الفرصة فعاد في سنة ١٠٥٨م على رأس جيش من الديلم وغيرهم واحتل العاصمة بغداد وأكره الخليفة القائم على أن يمضى وثيقة يتنازل فيها عن حقوقه وحقوق كل العباسيين الآخر لمصلحة الخليفة الفاطمي المستنصر المنافس له فى القاهرة الذى أرسلت إليه إذ ذاك شارات الخلافة بما فيها بردة الرسول وغير ذلك من الآثار المقدسة وأرسلت كذلك عمامة القائم وشباك جميل من قصره إلى القاهرة لتكون تذكاراً لهذا الانتصار ولكن لما عاد طغرل إلى بغداد أعاد الخليفة و القائم وأمر بقتل البساسيري الحيانته سنة ١٠٦٠م ثم سرحت الجنود الديلمية فسحقت بذلك سلطة البويهيين نهائيا وبمجى السلاجقة وسيطرتهم على الأمور البعثت في الأداة الحكومية حيوية جديدة وكفاية لم تكن لها قبل مجيئهم كما بعثت بفضلهم في الإسلام قوة جديدة من الإيمان الصادق السليم فلقد أخذ هذا الشعب الأبى من آسيا الوسطى ينضم بدم جديد إلى الصراع الذى كان يقوم به الإسلام ليحصل على السيادة العالمية إن قصة هؤلاء البدو الذين اعتنقوا ديانة أولئك الذين تغلبوا عليهم وأصبحوا من أشد أنصارها حماساً لتعتبر حادثة فذة من الحوادث المعارة فى تاريخ هذا الدين ولقد تكرر هذا العمل على أبدى النار الذين جاءوا في القرن الثالث عشر كما تكرر على أيدى أقربائهم الأتراك العثمانيين الذين جاءوا في أوائل القرن الرابع عشر ولا أدل من ذلك على فاعلية الدين الإسلامي الذي يستطيع في أحلك الساعات السياسية بالنسبة له أن يكتسب انتصاراً من انتصاراته الزاهية لما توفى طغرل بك في عام ٠٦٣ ١م خلفه ابن أخيه ألب أرسلان سلطاناً على السلاجقة ولم يكن قد جاوز السادسة والعشرين من عمره وكان حاكماً قوياً عادلاً كريماً بوجه عام كثير البذل للفقراء لا يتوانى عن مجازاة من يظلم الناس أو يغتصب مالهم من عماله وكان يقضى جزءاً كبيراً من وقته في دراسة التاريخ كما كان مولعاً بالاستماع إلى أخبار السابقين وإلى الأعمال التي تكشف عن أخلاقهم وأنظمة حكمهم وإدارتهم وقد أثبت ألب أرسلان رغم هذه الميول العلمية أنه خليق باسمه الذي معناه البطل قلب الأسد فقد فتح الشام وبلاد الكرج وهراة وأرمينية وبذلك كان أول من اكتسب من المسلمين أرضاً ثابتة في بلاد الروم وقد كان إمبراطور الروم قد حشد جيشاً مؤلفاً من مائة ألف جندي من مختلف الأجناس ليلاق به جنود ألب أرسلان المضرسين البالغ عددهم ١٥,٠٠٠ مقاتل فلما التقيا عرض القائد السلجوق على عدوه صلحاً معقولاً رفضه رومانوس بازدراء واشتبك معه في معركة منزيكرت بأرمينية عام ۱۰٧١م وحارب بيسالة بين جنده الجبناء فهزم ووقع في الأسر وجيء به إلى السلطان فسأله ماذا كان يفعل لو ابتسم الحظ ؟ فأجابه رومانوس بأنه في هذه الحال كان يمزق جسده بالسياط ولكن ألب عامله أحسن معاملة وأطلق سراحه بعد أن وعده بأن يفتدى نفسه بفدية كبيرة وسمح له بالرجوع إلى بلاده ومنحه كثيراً من الهدايا القيمة وبعد عام من ذلك الوقت أغتيل ألب أرسلان كان ملكشاه بن ألب أرسلان أعظم سلاطين السلاجقة على الإطلاق وبينماكان قائده سليمان يتم فتح آسيا الصغرى كان هو نفسه يستولى على ما وراء نهر جيحون ويمد فتوجه إلى بخارى وكاشغر واستطاع بتدبير وزيره العظيم نظام الملك أن يجرى كثيراً من الإصلاحات والتجديدات حتى أسبغ على البلاد كثيراً من الرخاء والبهاء كالذى أسبغه البرامكة على بغداد في أيام هارون الرشيد وقد كانت كل الطرق في عهده آمنة لدرجة أن القافلة الواحدة المكونة من رجل أو رجلين كانت تستطيع أن تسافر بسلام دون أن تحتاج إلى حراسة خاصة من بلاد ما وراء النهر إلى بلادالشام كان نظام الملك العدو الأول والخصم اللدود لحسن الصباح هو اليد المديرة الهادئة خلال حكم ألب أرسلان وملكشاه فقد ظل نظام الملك ثلاثين عاماً ينظم شؤون البلاد ويشرف على أحوالها الإدارية والسياسية والمالية ويشجع الصناعة والتجارة ويصلح الجسور والنزل ويجعلها آمنة لجميع المسافرين وكان مثقفاً وعالماً كبيراً وصديقاً كريماً للمفكرين والشعراء والعلماء شيد المبانى الفخمة في بغداد وأسس فيها مدرسة كبرى ذاع صيتها في الآفاق وأمر بإنشاء إيوان القبة العظيم في المسجد الجامع بأصفهان ويبدو أنه هو الذي أشار على ملكشاه بأن يستقدم إلى بلاطه عمر الخيام وغيره من الفلكيين لإصلاح التقويم الفارسي وكانت النتيجة أن وضعواالتقويم المشهور المعروف بالتاريخ الجلالى الذي سمي كذلك نسبة إلى ملكشاه
لأن اسمه الكامل كان جلال الدين أبا الفتح . . ولقد قال جوستاف لوبون أحد العلماء المستشرقين المحدثين عن هذا التقويم إنه إلى حد ما أضبط من
تقويمنا ويحكى قصة قديمة إلى أن نظام الملك وحسن بن الصباح وعمر الخيام كانوا أصدقاء طفولة وقد أقسموا وهم صغار يطلبون العلم أن يقتسموا جميعاً ما عسى أن يوانى أى واحد منهم من حظ طيب وتحقق القول فيها عند الكلام على نشأة الحسن الصباح وقد كتب نظام الملك وهو فى سن الخامسة والسبعين فلسفته في الحكم في كتاب من أكبر الكتب فى النثر الفارسي وهو كتاب سياسة ناما أي كتاب فن الحكم ويوصى فيه بقوة أن يتمسك الملك والشعب بأصول الدين لأنه يرى أن الحكومة لا يمكن أن تستقر إلا إذا قامت على هذا الأساس ولم يبخل نظام الملك على مليكه ببعض النصائح الإنسانية بصره فيها بما على الحاكم من واجبات فقال إن الحاكم يجب ألا يفرط فى الشراب أو اللهو وإن عليه أن يتبين كل ما يرتكبه الموظفون من فساد أو ظلم ويعاقبهم عليه وأن يعقد مجلساً عاماً مرتين في كل أسبوع يستطيع أن يتقدم فيه أحقر رعاياه بما لديهم من الشكاوى والمظالم
وكان نظام الملك رحيماً بوجه عام في حكمه ولكنه لم يكن متسامحاً في أمور الدين لأن الدولة تستخدم في أعمالها المسيحيين واليهود والشيعة وندد أشد التنديد بحركة الحشاشين التي كان يتزعمها الحسن الصباح ويقول إنها تهدد وحدة الدولة وأن زعماءها من نسل المزدكية الشيوعيين أهل فارس الساسانيةومن هنا فقد كان يحارب هذه الحركة حرباً لا هوادة فيها انتهت سنة ١٠٩٢م باغتياله على يد أحد أتباع حركه الصباح وقد توفى ملكشاه بعد شهر من وفاة وزيره وبموته انتهت فترة المجد التي شملت حكم السلاطين السلاجقة الثلاثة الأولين لقد جمع هؤلاء الثلاثة الفترة صغيرة ولكنها زاهرة معظم البلاد المبعثرة التي كانت تكون يوماً ماوبعد موت ملكشاه تنازع أبناؤه على وراثة العرش وأخذت الحروب الداخلية تشتغل أوارها بينهم وتلت ذلك عدة اضطرابات أضعفت السلطةالمركزية السلجوقية وأدت إلى تصدع أسرته وقد كانت الامبراطورية السلجوقية مؤسسة على النظام القبلي لشعوبها البدوية فكان لا يستطيع أن يجمع بين هؤلاء إلا رجل يتمتع بشخصية قوية مسيطرة وكان نظام الاقطاعيات الحربية الذي أسسه نظام الملك سنة ۱۰۸۷ م والذي جعل هذه الاقطاعيات وراثية للمرة الأولى من العوامل التي أدت إلى تأسيس حكومات شبه مستقلة وهذه الاقطاعيات المنفصلة وصلت إلى الاستقلال الحقيقى فى أنحاء مختلفة من المملكة الواسعة في الوقت الذي كان فيه السلاجقة العظام فى فارس لا يتمتعون إلا بنفوذ اسمى حتى سنه ١١٥٧م في أواخر القرن الخامس الهجرى وأواخر القرن الحادي عشر الميلادي عندما أخذت جموع الصليبيين المتعددة الهويات تسلك سبيلها إلى بلاد الشام لتغتصبها من أيدى المسلمين كانت البلاد مسرحاً للانقسامات والعجز فلقد كانت موزعة بين عدد كبير من زعماء العرب المحليين وكان يحفها من الشمال الأتراك السلاجقةبينما كان الحكم في الجنوب في يد الشيعة الفاطميين بمصر وكان الشقان أبعد ما يكونون عن الوحدة في التكوين أو حتى في اللغة ففى جنوب لبنان كان يوجد الدروز وكان في الجبال الشمالية النصيرية ويجاورهم الاسماعيلية أو الحشاشون فيما بعد . . وكان هؤلاء يكونون ثلاث فرق مختلفة تناقض المذاهب السنية في مميزاتها . أما الجماعات المسيحية فكان من بينها المارون في شمال لبنان الذين كانوا لايزالون يتحدثون اللغة السريانية إلى حد كبير ويكونون أكبر أقلية مسيحية في تلك البلادثم جاء أحد فروع السلاجقة من أواسط آسيا وكونوا قسماً من أشهر أقسام تلك الأسرة ولكنهم لم يكونوا متحدين تحت زعامة رئيس واحد فلقد كانت كل بلدة في سوريا مهما يكن شأنها في ذلك الوقت لها حاكمها السلجوقى أو العربى وقد استقلت طرابلس بعد سنة ١٠٨٩ م تحت حكم بني عمار الشيعيين وكان بنو منقذ يحكمون شيزر بعد سنة ۱۰۸۱م وكان البيزنطيون يستولون على البلاد الواقعة على طول السواحل وعلى الحدود الشماليةوقد ظهرت أول حملات السلاجقة فى الشام قبل سنة ۱۰۷۰م بقليل وجعل ألب أرسلان في هذه السنة من الأمير العربي الذي يحكم حلب تابعاً له أنتهز قواد ألب بيت المقدس واستولى على فلسطين ولما كان السلاجقة من أهل السنة المتحمسين فإنهم كانوا يرون من واجبهم استئصال شأفة التشيع الفاطمي الإسماعيلي وبعد خمس سنوات استولى على دمشق من الفاطميين أيضاً ولكن لم تكد تأتى سنة ۱۰۹۸م حتى عادت بيت المقدس مرة ثانية إلى أيدى الفاطميين الذين قد أعاد أسطولهم القوى سنة ١٠٨٩ م الاستيلاء على كل مدن السواحل بما فيها عسقلان وعكا وجبيل في الشمال ويعتبر ابن ألب أرسلان المؤسس الحقيقي لدولة السلاجقة في الشام وقد استطاع في ربيع سنة ١٠٩٤ م أن يدعم نفوذه في حلب والرها والموصل علاوة على ممتلكاته في خراسان ولكنه لما سقط في العام التالي في المعركة انقسمت ممتلكاته الشامية التي تعب في الحصول عليها بين ولديه رضوان ودقاق نتيجة للمنافسة بينهما والتحاسد الموجود بين قواده الذين كانوا يجرون وراء مصالحهم الشخصية
وقد اتخذ رضوان حلب عاصمة له وظل يحكم فيها من سنة ١٠٩٥ إلى ١١١٣ م أما دقاق الذي حكم من ١٠٩٥ إلى ١١٠٤م فإنه أخذ دمشق عاصمة له وقد كانت العداوة والصراع بين الأخوين التي بدأت١٠٩٦م هى المحور الذي دارت حوله الحوادث في عصريهما
وسلبية الخليفة العباسي تجاه الحروب الصليبية
إن تسلط السلاجقة على الخلافة الذى بدأ في أيام القائم سنة (٤٤٧ هـ – ١٠٥٥م) استمر حتى سنة ( ٥٩٠ هـ – ١١٩٤م) في عهد الناصر وخلال الشطر الأكبر من هذه المدة كانت الحروب الصليبية تسلك سبيلها بصعوبة في سوريا وفلسطين ولكن لم يكن سلاجقة فارس ولا العباسيون يكترثون لشيء من هذه الأمور البعيدة عنهم وكانت الحروب الصليبية في نظر الشطر الأكبر من المجتمع الإسلامي إذا نظرنا من زاوية مركزه كونه أمراً أو حادثاً غير واضح الدلالة أو الغرض ولما سقطت أورشليم القدس وصل وفد من المسلمين إلى بغداد يطلب المعونة ضد المسيحيين الغزاة ذرف الناس الدمع الغزير وأظهروا العطف الكبير ولكن لم ترا أحد يعمل وقد أحال الخليفة المستظهر العباسي الوفد إلى السلطان بركيارق الخلف الثاني لملكشاه وابنه الذى بدأ في عصره تدهور السلطنة ففاوض الوفد السلطان وانتهت المفاوضة إلى لا شيء وفى سنة ۱۱۰٨م ظهر وقد آخر من طرابلس التي دكها الصليبيون وكان يرأس الوفد زعيم المدينة المحاصرة وفشلت البعثة هذه المرة كما فشلت نظيرتها من قبل وبعد ذلك بثلاث سنوات عندما أسر الافرنج بعض المراكب المصرية التي كانت تحمل سلعاً تجارية إلى تجار حلب ذهب وفد ثالث إلى الخليفة المستظهر وألح أعضاء هذا الوفد الحلبي وبلغ بهم الأمر إلى أن حطموا المنبر وعطلوا الصلاة في المسجد الذي كان يؤدى السلطان فيه الصلاة وأخيراً اكتفى المستظهر بأن أرسل ثلة من الجنود مع الوفد لم تفعل شيئاً بطبيعة الحال وهكذا كان الخليفة العباسي وسلطانه السلجوق يقفان موقفاً سلبياً حين كانت تمثل على مسرح تاريخ العلاقات الإسلامية الصليبية أروع مناظره وعندما صب الصليبيون في عهد الخليفة المقتفى جام غضبهم على الزعيم الإسلامى زنكى مؤسس دولة الأتابكة في الموصل والشام وشددوا عليه الحصار بعث يطلب النجدة العاجلة إلى بغداد فكان الرد أن أرسلت بضعة آلاف تلبية الإلحاح الشعب وفي تلك الفترة نفسها كان كل من نور الدين بن زنكي الذي اشتهر بشجاعته وميله إلى الحرب وصلاح الدين القائد العظيم قد نجحا لا في مقاربة الصليبيين فحسب بل في إسقاط الدولة الفاطمية ولما كان صلاح الدين سنياً مخلصاً فإنه أحل اسم الخليفة العباسي المستضيء في خطبة الجمعة بديل اسم الخليفة الفاطمي في كل من مصر والشام . وهكذا اعترف بالسيادة الاسميةللخلفاء العباسيين في هذه البلاد مرة أخرى واستطاع صلاح الدين أن يوجه الضربة القاضية للصليبيين في معركة حطين سنة (٥٨٣ هـ – (۱۱۸۷م) وبعد حصار بيت المقدس التي فقدت حاميتها في حطين بن حصاراً استمر أسبوعاً وجلجلت في المسجد الأقصى أصوات المؤذن بدل صلصلة الأجراس المسيحية ثم أسقط الصليب الذهبي الذي كان يعلو قبة الصخرة أسقطه محطماً رجال صلاح الدين وكان الاستيلاء على عاصمة المملكة اللاتينية مؤذناً باستيلاء صلاح الدين على معظم المدن الفرنجية في الشام وفلسطين لقد سلم معظم تلك المعاقل على أثر سلسلة من الانتصارات الباهرة فلم يقاوم واحد منها وما كانت تستطيع ذلك بعد إذ فقدت أحسن حماتها في يوم حطين وكأنما روح الجهاد التي يظهر أن الصليبيين فقدوها قد سرت في بطل الإسلام العظيم صلاح الدين فدفعته يواصل انتصاراته في الشمال حتى اللاذقية وجبلة وصهيون وفي الجنوب حتى الكرك والشوبك كل هذه المدن وغيرها مثل أرنون وكوكب وصفد وغيرها من الأشواك التي كانت تحز في جنب المسلمين سقطت قبل خاتمة سنة ( ٥٨٦) هـ – ١١٨٩م) أتاح الاعتراف الجديد بالخلافة العباسية الذي يرجع الفضل فيه إلى البطل صلاح الدين والمشاحنات الداخلية التي لا حد لها بين الأمراء السلاجقة الفرصة لتحقيق آمال الخليفة الناصر في أن يرجع إلى الخلافة شيئاً يشبه كيانها القديم وتعتبر فترة حكم الناصر التي امتدت من سنة ( ٥٧٦ هـ – ١١٨٠م) إلى ( ٦٢٢ هـ – ١٢٢٥ م) أطول فترة حكم في التاريخ العباسي وقد بدأ يفرض الناصر إرادته على العاصمة بغداد فأمر بإقامة عدة مبان تعهدها بالأموال كما رفع مستوى الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافيةوازدهر في ظل رعايته نظام خالص من الأخوة يعرف بنظام الفتوة ويرجع إصل هذه الأخوة إلى أيام على وكانت تجمع نفراً من أصل طيب معظمهم من سلالة ابن عم الرسول وزوج ابنته وكان يسمى أعضاء هذاالنظام بالفتيان وكانت لهم حفلات خاصة وطقوس لإدخال الأعضاء في جماعتهم كما كانوا يلبسون ملابس تميزهم عن غيرهم على أن محاولات الناصر هذه لم تكن أكثر من اشتعال فتيل قبل انطفائه أو كصحوة الموت وكانت أول غلطة خطيرة له عندما حرض تكش حاكم خوارزم وأحد أعضاء الأسرة التركية لشاهات خوارزم التي قيض لها أن تلعب الدور الرئيسي في تاريخ آسيا الوسطى أكثر من مائة سنة عندما حرضه على أن يهجم على سلاجقة العراق العجمي أى إقليم ميديا الذين خلفوا سلاجقة فارس العظام في حكم بغداد ودارت رحى المعركة بين تكش والسلطان السلجوق طغرل في سنة ( ٥٩٠هـ – (١١٩٤م) وانتهت بهزيمة طغرل وبذلك انتهى البيت السلجوق في كل من العراق وكردستان وكان الناصر ينتظر من الشاه المنتصر أن يسلم إليه البلاد المفتوحة ولكن تكش كان يفكر تفكيراً آخر ويدير شيئاً ثانياً ولقد اتبع التقليد السلجوق بأن سك على العملة اسمه كسلطان وكان يطمع في أن يكون له النفوذ الزمني في بغداد وأن يترك للخليفة السلطة الاسمية فقط واستمر النزاع في عهد ابنه علاء الدين محمود الذي خلفه على العرش سنة (٥٩٧ هـ – ۱۲۰۰م) فبعد أن أخضع الشطر الأكبر من فارس وبخاري وأختها سمرقند واستولى على غزنة قرر هذا الشاه الخوارزمي أن يضع حداً نهائياً للخلافة العباسية وصمم على أن يقيم مكانها خلافة علوية ووقع الخليفة الناصر فى حيرة لم يخرجه منها إلا ظهور قوة كبرى كان قد بدأ نجمها يبزغ فوق الأفق فى الشرق البعيد بقيادة جنكيز خان ذلك الزعيم المرعب الجموع التتار الوثنية فقد أدت ظهور هذه القوة إلى انشغال علاء الدين محمود الخوارزمي بمقاومتها والتصدى لها بما صرف نظره عن مطامحه بشأن القضاء على الخلافة العباسية وأمام هذه الجموع التتارية الرهيبة التي كانت تتراوح بين ٢٠,٠٠٠ و ۷۰,۰۰۰ ويزداد عددهم بمن ينضم إليهم من الشعوب التي تخضع لهم على طول الطريق لم يجد علاء الدين وسيلة إلا الفرار وكان الملجأ الذي أهرع إليه جزيرة في بحر الجزر كان التتار بقيادة جنكيز خان على خيولهم السريعة وبما يحملون من أقواس غريبة يثيرون وينشرون الفزع والخراب أينما حلوا لقد استوصلت أمام حركاتهم وزحفهم كل مراكز الثقافة فى الشرق الإسلامي وتركوا كل مكان عامر صحراء بلقعاً وخرائب متراكمة يستوى فى ذلك القصور الفخمة ودورالكتب العظيمة وكان يدل على مسيرهم مجرى من الدماء فقد كان تعطشهم للدماء عجيباً ومفزعاً وعلى سبيل المثال كان عدة أهل هراة ۱۰۰,۰۰۰ فلم يتركوا فيها إلا ٤٠,٠٠٠ أما مساجد بخاري التي كانت مقر العلم والتقى فقد اتخذ منها هؤلاء المتخلفون أشباه الإنسان اسطبلات خيولهم وقائدهم جنكيز خان السيف الكثير من سكان سمرقند وبلخ وساق أمامه جموع الأسرى منهم أما خوارزم فقد دمرت تدميراً تاماً وقد روى عن جنكيز خان أنه بعد الاستيلاء على بخارى وصف نفسه في إحدى خطبة بأنه عذاب الله أرسله إلى الناس عقاباً لهم على خطاياهم وعندما زار ابن بطوطة هذه المدن بعد مائة عام من ذلك الوقت وصفها بأن أكثرها لايزال خراب ينعق فيها اليوم وزحف تولوى بن جنكيز خان بجيش يبلغ سبعين ألفاً اخترق به خراسان وخرب كل ما مر به من المدن وكان هؤلاء الهمج يضعون الأسرى في مقدمة جيوشهم ويخيرونهم بين قتال مواطنيهم من أمامهم أو قتلهم من خلفهم وفتحت مرو خيانة وأحرقت عن آخرها ودمرت في اللهب مكتبتها التي كانت مفخرة الإسلام وسمح لأهلها بأن يخرجوا من أبوابها يحملون معهم كنوزهم ولكنهم لم يخرجوا على هذا النحو إلا ليقتلوا وينهبوا فرادى ويؤكد المؤرخون أن هذه المذابح استمرت ثلاثة عشر يوماً هلك فيها ١,٣٠٠,٠٠٠ نسمةوقاومت نيسابور الغزاة الهمج ببسالة زمناً طويلاً فلما استسلمت آخر الأمر قتل كل من فيها من الرجال والنساء والأطفال ماعدا أربعمائة من مهرة الصناع أرسلوا إلى منغوليا وكومت رؤوس القتلى في كومة مروعة وخربت كذلك مدينة الرى الجميلة ومساجدها البالغ عددها ثلاث آلاف وما كان فيها من مصانع الفخار الذائعة الصيت وقتل أهلها عن آخرهم كما يقول المؤرخين لقد كانت هذه الوحشية جزءًا من علوم الحرب عند المغول وكانوا يقصدون بها شل قوى أعدائهم بما يقذفونه من الرعب في قلوبهم وإرهاب المغلوبين على أمرهم حتى لا يفكروا فى الخروج عليهم ونجحت هذه الخطةإلا مع مصر القاهرة أما الخليفة الناصر فإنه قضى السنوات القلائل الباقية من حكمه الطويل في حالة رعب مستمره وكذلك كان حال ابنه الظاهر وحفيده المستنصر وحدث ذات مرة أن التتار قد تقدموا حتى وصلوا إلى سامراء فامتلأ أهل بغداد رعباً وأخذوا يتهيأون للدفاع عن أنفسهم ولكن الخطر زال مؤقتاً ولم يكن زواله إلا بمثابة الهجعة المؤقتة قبل هبوب العاصفة المميتة وقد هبت العاصفة المميتة بالفعل عندما سمع التتار بتحركات الحشاشين ضدهم في إيران ففى سنة (٦٥٢هـ – ١٢٥٣م) بارح هولاكو حفيد جنكيز خان منغولياً على رأس جيش ضخم واضعاً أمام عينيه هدفين أساسيين هما تحطيم الحشاشين الذين أبدوا بأساً وشجاعة وصموداً في مواجهتهم والقضاء على الخلافة العباسيةوعندما بدأت موجة الزحف المغولى الثانية اكتسحت أمامها كل الإمارات الصغيرة التي كانت تحاول أن تقوم على أنقاض امبراطورية خوارزم شاه وأرسل هولاكو دعوة إلى الخليفة المستعصم لينضم إليه في حملة ضد حركة الحشاشين فلم تلق دعوته جواباً مما دفع هولاكو إلى تركيز جل جهوده على مهاجمة معاقل وقلاع الحركة وبالفعل تمكن في النهاية من تحطيم معظم القلاع بما فيها قلعة الموت الشهيرة وبعد أن حقق هولاكو هدفه الأول المتمثل في القضاء على الحركة الخطرة حركة الحشاشين أرسل في العام التالي وهو في طريق خراسان المتعرج المشهور إنذاراً نهائياً إلى المستعصم يطلب فيه أن يكون الخليفة خاضعاً للخان الأعظم وأن تجرد بغداد من الأسلحة ومن جميع وسائل الدفاع وأن يدمر أسوار مدينته الخارجية فرفض المستعصم هذه الطلبات في إباء فحاصر المغول بغداد وأخذت منجنيقات هولاكو تقذف أحجارها على أسوار العاصمة وسرعان ما أحدثت تصدعاً في أحد الأبراج رأى الخليفة هلاك المدينة أمر لابد حادث ولم يجد بداً من تسليم نفسه إلى عدوه على أمل الرحمة التي وعده بها هولاكو فخرج من بغداد يوم الأحد من صفر سنة ٦٥٦هـ ومعه أولاده الثلاثة أبو الفضل عبد الرحمن وأبو العباس أحمد وأبو المناقب مبارك وثلاثة آلاف شخص من السادة والأئمة والقضاة وكبار رجال الدولة وسلم نفسه معهم إلى هولاكو وقد قابله هولاكو المخادع الذى ليس له عهد ولا ضميروطلب منه أن يأمر أهل بغداد بالتجرد من سلاحهم والخروج من مدينتهم بقصد عمل تعداد لهم فأجابه الخليفة إلى ذلك وأرسل رسولاً من لدنه ينادى على الناس رجوا من الأسوار ولما فعلوا ذلك أمر في طرقات بغداد أن يرموا سلاحهم ويخرجواثم دخل جيش هولاكو المدينة وأعملوا فيها السلب والنهب والقتل أربعين يوماً كاملة حتى فتكوا بـ ۸۰۰,۰۰۰ من أهلها على حد قول بعض المؤرخين وهلك فى هذه المذبحة الشاملة آلاف من العلماء والشعراء والأدباء ونهيت و دمرت فى أسبوع واحد المكاتب والكنوز التي أنفقت فى جمعها قرون طوال وذهبت مئات الآلاف من المجلدات طعمة للنيران أما الخليفة وأفراد أسرته فقد أرغمهم هولاكو على أن يكشفوا عن محابي ثرواتهم ثم قتلهم و توجه هولاكو إلى سوريا واستولى على حماة وحارم بعد استيلائه على حلب التي سلم فيها عدداً يقرب من خمسين ألفاً من السكان إلى السيف وعندما بلغه موت أخيه الخان الأعظم اضطر إلى العودة إلى منغوليا وبقى جيشه وراءه يتقدم لفتح باقى بلاد الشام تحت إمرة غيره من القواد