الشاعر علي الدندح : توظيف الأسطورة بالنص هو ” فتح ” جديد بالخطاب الشعري

الشاعر علي الدندح : توظيف الأسطورة بالنص هو ” فتح ” جديد بالخطاب الشعري
عبدالكريم العفيدلي / دمشق
يعد علي الدندح من أهم الأسماء الإعلامية بالمشهد الثقافي السوري ، يجيد فن الاستماع للضيف مايلبث أن يستولد من الإجابات أسئلة يفاجئك بها .. عميق لحد الدهشة ،وفوق هذا شاعر حداثي يتقن زرع الفضول بذهن المتلقي ويقوده إلى محتوى دواوينه من خلال العناوين الصادمة والتي غالبا مايستوحيها من بيئته التي تختزن موروثا حضاريا كبيرا ، سليل حاتم الطائي وسفير الجزيرة العليا متحدثا في هذا الحوار عن تجربته وقضايا أدبية مهمة :
إلى أي مدى أسهمت البيئة التي تنتمي إليها في تنمية الموهبة لديك ؟
لم تكن بيئة واحدة يا صديقي بل عدة منازل ومناخات وتنقلات تحت شمس واحدة لصبي قرأ النص الأول في حجر أمه التي علقت ناب الذئب في عنقه منذ الولادة وقالت له وهي تذر الملح الصخري على كتفيه حصنتك بالرب العالي بالمصحف والبيدر والغيمة ودروب النهر وبناب الذئب الساكن سفحك يا سنجار .. الحجاب الذي طوته السيدية كما تسميها أمي ومن هذا الحرز ومن هذه المناخات التي أظلت بيتي الطيني في قرية سريانية اشتقت اسمها من أسماء سلالة طائية كانت القهوة و(الدلة) والفرس والسيف المعلق في صدر (الربعة) وشما في ذاكرتي التي تيبست حروفها في قاع قريحة شعرية لم تكن في الحسبان يومذاك أنها جعبة كلمات تحمل ما أنا وأنت اليوم في حوارنا من أجله إنه (الشعر) وهم الموهبة التي قادت إلى هذا الحوار يا عبد الكريم.
دائما ماتأتي بعناوين صادمة لدواوينك الشعرية ، هل نستطيع القول بأن هذا أسلوب متعمد لجذب القارىء ؟
العنوان هو رأس الحربة في ساح القصيد. ولا سلاح في معركة إثبات النص دون فحولة العنوان وبراعته في خلب ألباب المتلقي.. فلا بد من عنوان صادم صادق صارم صارخ يورط القارئ والمتلقي في حب النص وعشق القصيدة والإدمان على الديوان.. هذا في منطق الصنعة والدربة وترويض الفكر على إنتاج عنوان يأخذ سهم الأسد من حصة الاهتمام من قبل القارئ وصاحب الدار المنتجة للكتاب أما بما يخص الاختيار ومساحات التخييل التي تستهلك الشاعر في التفكير في إبداع العنوان هنا أقول لك : أخذت مني الكثير من الجهد والوقت حتى توصلت إلى نتيجة بأنني حفيد للجن الأبيض ولا أحب البرتقال إلا إذا كان أسوداً على عربة بائع ينادي لاصوت للظل حتى صادفتك ذات مساء لتقول لي : (كف عن النزف يا علي ).
يلاحظ عليك الغرق في الميثولوجيا ، هل هي دعوة للبحث في الموروث ؟
توظيف الأسطورة في النص جاء فتحاً جديداً على مستوى الخطاب الشعري، وثورة في بنية القصيدة؛ إذ أخرجها من الغنائية والمباشرة والخطابية، إلى أفق الموضوعية والإنسانية الجمعاء، ومن الضرورة أن نتعمق أكثر في الوقوف على الجانب النفسي لهذه الأساطير وتوظيفها في النصوص على وجه الخصوص. خاصة واني أنتمي لبيئة تعد خزاناً معرفياً لكل الأمم والحضارات التي مرت على هذه الأرض من أشور وكلدان وأرمن وأتراك اضافة الى قوافل التجارة وتقاطعها مع جحافل الغزاة والطامعين بهذه البلاد ولا تنس عربية التراب والهواء التي تشربنا بعبقهما منذ الأمد من هنا جاءت الميثولوجيا امتداد حقيقي لموروث
يعتمد على الإلتفات والإتكاء على نموذج ملتحم مع حدث تاريخي، فيقوم الشاعر بتوظيفه ضمنياً كمحور أو إشارة أو دلالة مستغلاً ما تعنيه تلك الشخصية من إيحاء وما تصنعه من أجواء تعمق الفهم للقصيدة. وتشبعها بالخصوبة. وتتحول من خلالها إلى فعل شعري متصاعد على أن تكون تلك الشخصية مبهرة ومضيئة ومدهشة أو صاخبة ومتفجرة ذات نزوع تأثيري واضح. ولن يتأتى ذلك إلا بتوظيف التراث في سياق النص الشعري كدعامة أساسية لا تقل أهمية عن الأسطورة وهما وجهان لعملة واحدة إذا كان الأمر متعلقا بالحفاظ على العادات والتقاليد والموروث الخاص والعام للفرد والعائلة والمجتمع.
تغلب على قصائدك الموسيقى الداخلية في حالة تمازج بين السلوكيات والحالات المتفردة من عشق أو توجد أو رثاء.. ، إلى أي مدى تحاول أن تنأى عن الخطوط المتشابكة بالحداثة رغم انتماءك أدبيا لها ؟
عندما نرصد تطور القصيدة بين الشكل والمضمون لا ندعو بأي شكل من الأشكال إلى التعلق الرومانسي بالتراث الشعري، من وزن وقافية وفي المقابل لسنا مع الدعوة إلى التمرد على التراث، تلك الدعوة التي يتحمس ويروج لها أولئك المغالون في الحداثة، شعراء كانوا أم نقاداً. انا كتبت القصيدة الخليلية وقصيدة التفعيلة ومن عشاق الجرس الموسيقي الكلاسيكي الى أن بدأت بكتابة قصيدة النثر أعرف موقفك يا صديقي من التسمية لكن دعنا نتجاوز الى التضمين الموسيقي الذي يقود النص الى قراءة صامتة بعيدا عن رحابة المنبر وقوة الالقاء ونخلص إلى القول إن الموسيقا الشعرية تتنوع بين الموسيقا الخارجية والموسيقا الداخلية، وإلا ما اختلفت القصائد المنظومة على بحر واحد في ما بينها، وإنه لمن التبسيط، إن لم نقل السذاجة، أن نتصور الموسيقا الشعرية طبلاً وزمراً وجوقة وطنيناً، فالموسيقا الشعرية بل كل موسيقا ألوان مختلفة وتجليات متعددة، وما الفرق بين موسيقا شعرية وأخرى إلا كالفرق بين أغنية وأخرى، وقطعة موسيقية وأخرى، ولوحة تشكيلية وأخرى، منها ما يعتمد على التكرار المتساوي، ومنها ما يعتمد على دندنة جمل موسيقية متنوعة ومنها ما يعتمد على طنين الصمت والتجريد، مع الإيمان بأن الموسيقا عنصر شعري ليس أكثر، ولكنها ليست الشعر …
تقول بأحدى قصائدك : ” يا امرأة تأتي من دون مواعيد.. في لحظة تكوين المطر العذري ” هل يجب على الشاعر أن يكون عذريا في شاعريته ؟
تذكرني بقول القباني :الحب في الأرض بعض من تخيلنا / لو لم نجده عليها لاخترعناه). وأيضا قال : /لولا المحبة في جوانحه ما أصبح الإنسان إنسانًا/ هكذا هم الشعراء يا صديقي الشاعر شعرًا؛ يتواءمون ويتحدون في الأفكار الإنسانية النبيلة، مهما كانت جغرافياتهم، ومشاربهم الثقافية، ولون دم مدادهم. ويتحدون في عذرية المشاعر والإحساس المخضب بالمرأة التي هي محور الكون قبل أن تكون محور القصيدة والتجربة الناجزة لا شك أن الحب، بأشكاله ومضامينه المختلفة العليا، نعمة إلهية تجعل القلب جنة مشعة بذاتها، للآخرين ولها، وفضاءً ورديًا فسيحا، وفصلاً أخضر دائما دونه؛ لا يكون الإنسان إنسانًا، ولا الأرض قادرة على احتماله، ولا حتى كل شيء فيها وعليها . يقول الشاعر (لوركا): “لا يحتاج الشعر إلى مهنيين مهرة، بل إلى عشاق”. بالنسبة إلي؛ تعود شعري أن ينطلق منذ بواكيره من مرتقى القلب، حبوا وحبًّا، نحو الحياة كما أشتهيها أن تكون لنا نحن الإنسان، وظلت هذه الحالة انطلاق كل قصيدة دائما. بالحب أحببت لغتي، ومدادي الأزرق، وورقي الأصفر، وتعبي الكلي روحًا وجسدا وقلقي الرصين على القصيدة، فأحببتني شاعرًا بهذا وغيره، أحببت الحياة فسحةللجمال، والإنسان ممارسا لإنسانيته، والكون رائعًا خلابًا مدهشا، وباعنا الحقيقة منهذا، لا أحتمل شعرًا يشتم أو يهجو ، أو يلعن، أو يمدح كذبًا، أو يرثي سلبًا. لم أكتب الشعر إلا بعصير القلب، وعلى أشعة الروح، أرشقه بيد الوله نحو نافذة الإنسان المنفتح القلب كي لا ينسى أنه إنسان طوال الوقت ما دامت الحياة فيه. و القصيدة التي تضمنت سؤالك هي من ديوان لا صوت للظل الصادر عن وزارة الثقافة العام 2017 هي سنام الديوان وكانت أن تكون ديوانا كاملا لأني كنت أتحدث عن الشعور الداخلي والضمني للمرأة المكلومة التي اعتصرها الوجد وأربكتها التضاريس الحياتية مع الرجل.
صرخت ذات مقال ” يا أيها النقاد رفقا بالمبدعين ” ، إلى مدى أنت مقتنع أنه يوجد نقاد حقيقيين يستطيعون تقييم النص الإبداعي دون الإتكاء إلى ماهو موروث من تقليد للمدارس الغربية والشرقية ؟
لا ينتمي الشعر ولا يقبل، وكافة الفنون الإبداعية، إلى جغرافيا، أو جنسية، أو قبلية … الخ، لأنه رسالة من الشاعر الإنسان دون زمان ومكان إلى الإنسان في كل العالم. هذا من ناحية الشكل والرسالة أما بخصوص النقد والمدارس النقدية والتعدد والقراءات والمجاملات والارتدادات التي تعكس كل ما تشاهده وتسمعه من كتابات تدعي النقد والرؤية والقراءة الحسية للنص لا نغالي إذا قلنا إن نقد الشعر ممارسة لا يتمكن منها من هو طارئ أو هاو، على عكس نقد السرد الذي يمكن ممارسته من قبلا للطارئين والهواة والغارقين في برك والشللية أو الساعين إلى إعادة الفاعلية لألقابهم المفتقدة والسؤال :هل هذه وظيفة النقد؛ أن يحمل الناقد مصباحًا، ويسلط حزم ضوئه على العمل الإبداعي ليضيئه ….العمل الإبداعي ذاتي الإضاءة، مشكل من طبقات ضوئية فوق بعض، وفي كل قراءة أعمق يزداد التوهج مصاحبًا دهشة للقارئ الذي يتقن قراءة العمل الإبداعي بإبداع أيضاأتساءل هل النقد ضرورة للشعر ؟ ماذا يقدر النقد أن يفعل للقصيدة؟ كيف يمكن الكتابة عن شيء يعبرك من حواسك إن لم يكن وما بعدها ؟ هل الكتابة عن الحلم الدهشة التحليق في سابع فضاء ممكنة؟ أعتقد جازمًا، أن الشعر لا يحتاج الكتابة عنه، بل يريد الإحساس المتوسع به لدرجة أن لا تستطيع معها سوى أن تجرع خمرة الصمت ممزوجة بتفتح الرعشة أزهارًا في كل خلية من خلاياك.
معظم النقد العربي للشعر يدور حول الغلاف الغازي للقصيدة، لأنه يقرؤها، كما يفعل أي قارئ أو حتى متلق دون أن يضع جانبًا إرث أفكاره المسبقة عن الشعر. إن القصيدة المبدعة تريد أن تقرأ كأنه لا قصيدة قبلها، ولست أغالي إن قلت: كأنها أول الشعر. وأنت يا كريم شاعر وناقد لا تجامل وهذا عهدي بك.
هل الجغرافيا والوقت ضروريان- من وجهة نظرك – كي يستطيع الشاعر أن ينقل الواقع بصدق ؟
عندما تقول جغرافيا فهل المراد المكان والبيئة والوجهة والتنقلات وتعدد الفصول والأحوال في تضاريس النص الشعري عندما تقول الوقت فهل المقصود زمن الكتابة المباشرة التي تجل من النص مادة صحفية تؤرخ للحظة وتصبح في ما بعد وقفاً على الحدث لا أكثر… أما إن كان المراد من السؤال هو زمن الكتابة أقول لك وبصدق : أنا أرى أن العزلة ضرورة لمزاج الإبداع؛ أن تكون كلك وحدك أثناء الكتابة، بعد أن تكون بين مجموع تشارك، وتراقب وتتأمل، وتحلل، وتفكر، وتخزن، وتدرب مخيلتك … الخ . العزلة أحتاجها جدا، لأنها تمنحني قدرة على التركيز الإبداعي، وتفكيك المخيلة، وفتح دفاتر الذاكرة، وسماع الصوت الخارج من داخلي….كل هذا وأكثر، من أجل كتابة نص شعري مغاير كل مرة؛ أكون فيه شاعرًا واحدًا القصيدة واحدة دائمًا. وهنا استطيع القول بأنني قادر على نقل الواقع بصدر وأمانة.
لو تحدثنا عن العلاقة الوطيدة بين الشاعر والأعلامي ، وأي صفة منهما تفضل أن تسبق اسمك ؟
ااه يا صديقي ما أصعب هذا السؤال.. بعيدا عن المثاليات أفضل أن أكون إنسان وصفة الإنسان والإنسانية هي أجمل وأفضل واقوي تكريم لك من الطرف الآخر الذي وضعت بخياراتك بينكما القلم والمايك).. الإعلام مهنة والشعر موهبة والإبداع هو الجمع بين الاثنين بطريقة مغايرة تستطيع من خلالها التفرد في الإعلام الثقافي من خلال جهد مضاعف عن الزملاء في الاختصاصات الإعلامية من اقتصاد واجتماع وسياسة ومنوعات أما إذا كان لا بد من الاختيار بين الشاعر والإعلامي فالشاعر هو الأقرب إلى نفسي مع احترامي وامتناني للإعلامي. فالإعلام مهنتي وساهمت بتغيير حياتي… أما الشعر فهو أنا بكل ما تعنيه كلمة أنا من ايجابيات وسلبيات.. بدأت شاعراً وسأكمل حياتي شاعرا وسأحتفظ بأرشيفي الإعلامي وأفاخر به.
حاورت في برنامج (قوافي) أسماء عديدة ، هل حصل وأن ندمت على استضافة أحدهم ؟
بالنسبة لبرنامج قوافٍ يعتبر علامة فارقة في تجربتي المهنية على الصعيد الإعلامي.. أكثر من سبع سنوات وأنا أخوض في غمار التجارب الشعرية على اختلاف أنماط كتاباتها وتعدد مشارب ثقافاتها وبيئاتها ومن مختلف الأعمار سواء كانت تجارب ناجزة لها الحضور الكبير محليا وعربيا أو من الأقلام التي أثبتت حضورها على الساحة الأدبية .. لا أخفيك أني كنت في حقل من الألغام مع الشاعر والمبدع الحقيقي يحتاج التعامل إلى تقنية تحاكي الجانب النفسي والداخلي قبل الشخصي واستطيع القول بأني وفقت إلى حد ما في عملي كوسيط بين المتلقي والمبدع والدليل أن البرنامج استطاع أن يستمر فترة ليست بالقصيرة وهذا جهد نوعي يحسب لفريق العمر الذي كان وما زال معي.. أما بخصوص الشق الأهم من سؤالك وهو هل حصل وندمت على استضافة أحدهم : أقول لك وبكل صدق لا يوجد شاعر أفضل من شاعر وإنما هناك قصيدة أفضل من قصيدة وما يهمني هو النص والحضور والأثر حالة الندم التي ذكرتها إلى الآن لم أصل إليها .
تطرب أيما طرب للشعر الشعبي رغم أنك لم تكتبه ، كيف تنظر لواقعه اليوم في المشهد الثقافي السوري ؟
يحتل الشعر الشعبي (النبطي والزجل )مكانة متصدرة في الذاكرة الأدبية على امتداد الجغرافية السورية. وهو بلا شك يحضر بقوة مشكلاً وجهة تأثير إبداعي فاعلة ومهمة في تفاصيل الحياة اليومية في مجالسنا ومناسباتنا على اختلاف المكان والزمان.. وعطفا على السؤال السابق.. ففي برنامج قواف استضفت في غير حلقة أكثر من شاعر زجال أو نبطي وكانت ردود الأفعال بعد الحلقة تعطي الحافز الكبير نحو توثيق هذا الأدب الشعبي الذي يعد إرثا عظيما من موروثا اللامادي وجزءاً مهماًمن تاريخنا وعاداتنا وتقاليدنا وهو الوعاء الذي تستمد منه الأجيال امتدادها العريق وجسر التواصل وإحدى الركائز الأساسية في عملية التنمية والتطوير والبناء،والمكون الأساس في صياغة الشخصية وبلورة الهويةالوطنية. من بوابة الحفاظ على الموروث الشعبي إلى جانب الإعلاء من لغتنا الأم.