مقالات

الفتى الذي لم يبع الكبريت

الفتى الذي لم يبع الكبريت

الفتى الذي لم يبع الكبريت

 

بقلم / نور الدين الموعد

 

(دموعٌ تكاد تفرُّ من عينيك.. تتلمس في الذاكرة خطواتٍ خطوتها.. إلى أين كـانت الدروب؟!.. ماذا في الأفق؟!.. نزاعٌ في صدرك يتمـادى نحو الأعمق.. يداك لا تسـتجيب.. قدماك ليسـت كأفكارك التي تجري بلا هوادة.. بل لا حراك..)

“ماذا تريد يا فتى؟!.. أين أنت الآن؟!”

يفتح عينيه في أقصى اتساع لهما محاولاً رؤية صاحب الصوت..

من هذا الذي يشاركه حوار نفسه؟!

يحاول النهوض من فراشه فلا يستطيع.. يحدق في ضوء مبهر يأتيه من أمامه، ويتبدى من خلاله وجهٌّ متورد لشابٍ سرعان ما يخاطبه ببشاشة:

“نعم هذا أنا جدك.. كما تفكر”

(حقاً هذا أنـت!.. لا يمكن أن أتوه عن ملامحـك.. أنت تشبـه الصورة المعلقة في منزلنا، وكنت فيها في الأربعين من العمر.. لكنك الآن أصغر! ربما في الثلاثين.. نعم هكذا حدثتنا جدتي عن الحُمرة التي تغزو بشرتك البيضاء!.. جدي.. جدي..)

نظرات جده الحانية تركت له مجالاً لتنهيدة عميقة؛ ومشاعر شوق إلى حيويةٍ بات يفتقدها قد حُرِضَتْ وهو يرى نفسه في مرآة هذا الشاب!.. وأيّ شاب؟! هذا جده القوي الشجاع الذي احتفظ لــه بأطيب الأثر.

(جدي.. جدي..) يحاول النهوض مجدداً لكنه لا يستطيع..

“هل كنت تحلم.. كم هي أحلامك غزيرة! تجول فيها وتسافر.. ماذا جنيت؟! أما زال حصاد الأحلام أحلاماً؟! أما زلت عاثراً في وضع مراسيك؟!”

لقد كادت نبرته تقسو قليلاً، لكن ها هو عاطفٌّ عليه:

“ها أنت تجثم بائساً.. هيا يا حبيبي قف.. أما اشتقت لجدك حبيبك”.

(جدي.. جدي..) يهفو لأن يرتمي مع أحزانه بين أحضان جده.

“ألا يطاوعك جسدك؟!..”

(جدي أنت تذكرني بقصة بائعة الكبريت..!) لم يدر إن كان جده يسمعه أم لا.. لكن جده كان يواصل:

“ألا تتلقفه، وترفعه عن يأسه وقنوطه.. قف وليقف زمان الحلم مع وقوفك.. قف لتمسك بالجسد وتحمله واثقاً من النجاح.. خذ يديك كما هي يديك.. دعها تغرس في تراب سنيك القادمات ما حمله قلبك طويلاً..”

تمنى لو أن جده لم يسـمعه يذكر تلك القصة؛ بل وتمنى لو يتأكد من ذلك حين أكد جده:

“قف وامض.. ولا تنسَ نقوشاً طرزتها الأماني في طريق هذا القلب.. لا تنس أحلامك.. تذكر كل من أحببت.. تذكر كل ما سيعطيك مداداً لأيام بيضاء لا زالت بين يديك.. سيعطيك سلاحاً لتدافع به عن تيجان محبتك، وعروش مشاعرك..”

(أي بيع وأي كبريت ؟!.. ثم لماذا كل هذا الاعتماد على التمني ؟!..) يداه كانتا تحركان لحافه الثقيل.. وذلك الصوت.. صوت جده كأنه صار يأتي من حكاية جديدة.

“تلك دوافعـك النبيـلة ما زالت تقدح في نفسك.. لا زلت تصعد فيها، وهي تعتلج مع أفكارك.. تمسك بها يا بني حتى يبين لك الطريق.. تلك حاجات محقة.. أنت لسـت أنانياً، وهذا ما يوقفك بمشيئة الله.. قم واصنع دورك في الحياة..”

ينتابه شعور بالاطمئنان يتماثل مع ما كان يعبر عنه وجه جده.. يرفع لحافه وكأنه يريد فاصلاً إرادياً بينه وبين جده أو لعله إقفال لكل خواطر تلك الحكاية القديمة؛ لكنه يتنبه إلى أن الأمر مجرد حلم.. وما عليه سوى الاستيقاظ لتزول كل الأمور التي لم يردها..

(لكن بعض المطمطة في الفراش لا يضر بل يفيد..!) عندما فتح عينيه حقيقة كانت النافذة تستقبل نظره لكنها لم ترد عليه، وهو يلوح مودعاً، ولم تدر إن كانت معنيةً عندما نهض، وقال بمرح:

_ أهلاً بشمس الصباح الجديد.

يفتح النافذة ويستند على حافتها ليستنشق نسائم هواء جديدة وليسمع من جديد:

“مزيداً من المعرفة يا بني.. لا زلت صغيراً.. ما أنت به طبيعي لمن هو في مثل عمرك.. الصعوبات التي تمر بها ستكسبك قوة وصلابة.. وستكسبك التجارب خبرة تحتاجها لمواصلة الطريق.. كن على ثقة من أنني بانتظارك.. بانتظارك ظافراً منتصراً.. لا مهزوماً مخذولاً..”

(أنت أم أنا يا جدي من يفكر هذا؟!.. كم هي أيامنا هذه قاسية مع نهاية الانتفاضة على نقيض ما كان فينا يتصاعد وينمو..!)

هرع ليغسل وجهه الذي تلبدت الرؤية فيه مع بعض الدموع.. وعندما عاد التفت إلى صورة جده في الصالة:

(لطالما كنت بشخصيتك.. قدوةً لي..)

“لا تنس الجديد.. لا بد أن تضيف جديداً في زمانك حتى تكون بطلاً كجدك ..”

(نعم يا جدي). يدّ تربت على كتفه من الخلف… ينظر لوالده الذي يقول له:

– ألا زلت تتكلم مع جدك كما لو أنك ما زلت طفلاً ؟!…

بعض الخجل ينتابه مع ذكرى حديثه الطفولي لصورة جده بعد استشهاده، فيبتسم الأب الذي أخذ يتأمل وجه ابنه قائلاً في نفسه:

(هو أكثر أولادي شبهاً لجده.. لكنه بلا شك ما زال متأثراً بعد أن هدأت المواجهات الأخيرة مع الاحتلال وتوقفت مشاركاته فيها!).. ينظر إلى الصورة، ثم يعود للشبيه ملاطفاً:

– ماذا أخبرك مجدداً؟ هيا قل لي ..

لكن هذا الولد أحب أن يدعم مقولة أبيه بأنه قد كبر، فقال بنبرة واثقة:

_ أخبرني أن أقول لك: صباح الخير يا أبي.

عينا أبيه الحنونتان تقربه إلى صدره، فيحتضنه الأب متأثراً:

– صباح النور يا بني.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى