“الفردوس المفقود “. بقلم/ الكاتبة -شيرين أبو خيشة
“الفردوس المفقود “. الكاتبة -شيرين أبو خيشة

“الفردوس المفقود “.
الكاتبة -شيرين أبو خيشة
سلام عليكــم مــن عبيـــد تخلّفــــوا
بأندلس بالغرب في أرض غربـة
أحاط بهم بحر مــن الــروم زاخــر
وبحــر عميــق ذو ظــلام ولجّـة
سلام عليكــم مــن عبيــد أصابهــم
مصاب عظيم يا لها من مصيبـة
سلام عليكم مـن شيـــوخ تمزقـــت
شيوبهم بالنَّتْف مــن بعـــد عـزّة
سلام عليكم مـــن وجــوه تكشفــت
على جملة الأعلاج من بعد سترة
ســلام عليكــم مـــن بنــات عواتــق
يسوقهـــم اللِّبــاط قهـراً لخلــــوة
سلام عليكم من عجائــز أكرهــــت
على أكل خنزيـــر ولحــم جيفــة
( التلمساني)
الكتابة عن الأندلس المفقود ماهى إلا نزيف قلم مثقل بالذكرى بين غرس النور والتسامح وبين من حملوا الكراهية والبغضاء وحصدوا كل أمل فى التعايش
سادت حياه التمزق عامة في العالم الإسلامي إلا إنها في المغرب والأندلس كانت ظاهرة للعيان بادية في كل مظاهر الحياة لم تغيرها المصائب والنكبات التي كانت تقع على المسلمين في تلك البلاد لاسيما في الأندلس التي كانت تتساقط قلاعها وتخضع حصونها للصليبية التي ترفع شعار أسترداد الأندلس من أيدي المسلمين وزاد تلك الحال سوءاً النزاع المستمر بين حكام الطوائف الذين تمادوا في التفريط بمصالح أمتهم والانسلاخ من مسؤولياتهم في حمايه بلادهم ورعاياهم فبدلاً من ان يصحوا على الهجمات الصليبية التي لم تميز بين القريب منهم والبعيد بدلاً من الصحوه والوحده والثبات بوجه عدوهم تساقط هؤلاء في أحضانهم يغرونهم ببلادهم ويكشفون لهم عوراتهم ويعطونهم أسرارهم ويتحالفون معهم ضد أمتهم وإخوانهم انسلخوا من عقيدتهم ويتسابقون في تلبيه شروط عدوهم وتحقيق رغباته فلم يعودوا قادرين على القيام بمسؤولياتهم وحمايه رعاياهم الذين ملكوا أمورهم وأطاعوا العدو فيهم مداراة ونفاقا له ،الاغراءات والوعود المعسوله سقط فيها كثير من حكام المسلمين فخسروا دنياياهم وآخراهم وذلك هو الخسران المبين الصليبيه القديمه مثلما هي المعاصره لا يوجد في قواميسها الوجدانية مسميات تحمل معاني الحرام والحلال او الصدق و الوفاء ولا سيما اذا تعلق الأمر بالمسلمين فكل شيء مباح وبالقدر الذي يتمكن منهم إيقاع الفتن وتشكيك المسلمين بعضهم البعض
عقدت الاتفاقات السرية التي يكبت فيها حكام المسلمين ويوقع بينهم الشر والبغضاء والتناحر فطغت مخالب الصلبيه وزادت سياسه الحصار والتجويع والعقوبات الجماعية ضد المسلمين في الأندلس أنها سياسه تجريد المسلمين من السلاح أيا كان نوعه وسياسه التزوير والاتهام ونقض العهود وقتل الضعفاء والأطفال والنساء وإحراق العلماء وهم أحياء والقتل الجماعي ونهب الأموال وممارسه كل أشكال العدوان دون وازع من ضمير إلى غير ذلك من ضروب الهمجيه والوحشية
عاشت الأندلس صراعاتٍ مريرةٍ مع الممالك المسيحيَّة الشماليَّة أغلب تاريخها وبعد أن تفككت دولة الخِلافة فيها وقامت دُويلات مُلوك الطوائف شجَّعت الممالك المسيحيَّة على مُهاجمتها وغزو أراضيها بِقيادة ألفونسو السادس ملك قشتالة فانتفضت دولة المُرابطين بالمغرب الأقصى لِنُصرة الأندلس وتمكَّنت من صد الهجمات الإفرنجيَّة والقضاء على استقلال جميع دُويلات الطوائف فأصبحت الأندلس ولايةً من ولايات الدولة المُرابطيَّة ووريثتها الدولة المُوحديَّة من بعدها تمكَّنت الممالك المسيحيَّة الإفرنجيَّة في نهاية المطاف من التفوّق على جيرانها المُسلمين فتمكَّن ألفونسو السادس من السيطرة على طُليطلة سنة ١٠٨٥م وسُرعان ما أخذت باقي المُدن الإسلاميَّة تتساقط بيد الإفرنج الواحدة تلو الأُخرى وفي سنة ١٢٣٦م سقطت قُرطُبة وأصبحت إمارة غرناطة خاضعة لِسُلطان مملكة قشتالة وتدفعُ لها الجزية لقاء عدم التعرُّض لها وفي سنة ١٢٤٩م تمكَّن ألفونسو الثالث ملك البرتغال من انتزاع منطقة الغرب من المُسلمين الأمر الذي جعل من غرناطة الحصن الوحيد والأخير للمُسلمين في الأندلس وفي يوم ٢ ربيع الأوَّل ٨٩٧هـ المُوافق فيه ٢ كانون الثاني يناير ١٤٩٢م إستسلم أمير غرناطة أبو عبد الله مُحمَّد الثاني عشر إلى الإفرنج وسلَّم المدينة إلى الملكين الكاثوليكيين إيزابيلَّا القشتاليَّة وفرناندو الثاني الأراكوني مُنهيًا بذلك العصر الإسلامي في أيبريا وقد نزح المُسلمون واليهود من الأندلس بِأعدادٍ كبيرة وتبعثروا في المغرب العربي ومصر
والشَّام والآستانة عاصمة الدولة العُثمانيَّة وكان العُثمانيون قد خططوا للهُجوم على الأندلس واستردادها لكنَّ الخطة لم تُطبَّق لانشغال الأُسطول العُثماني بفتح قبرص ولِعدم التوصل إلى اتفاق مع الدولة السعديَّة المغربيَّة تركت الحضارة الأندلسيَّة علامةً بارزةً في الثقافتين الإسبانيَّة والبرتغاليَّة من حيثُ المطبخ والعمارة وتخطيط الحدائق والملبس خُصوصًا في الأجزاء الجنوبيَّة من تلك البلاد كما استعارت اللُغتين الإسبانيَّة والبرتغاليَّة الكثير من التعابير والمُصطلحات العربيَّة والأمازيغيَّة وأصبحت تُشكِّلُ جُزءًا لا يتجزَّأ من قاموسها
فضلًا عن وجود جبهة قتال مفتوحة مع العثمانيين في الشرق تُثار الذكريات والشجون حول ظروف سقوط آخر معاقل المسلمين في غرب أوروبا وأسبابه ويحتفي المحتفون بالفردوس المفقود وحضارته التي عَلَّمت أوروبا ووضعتها على خطى النهضة.
إن الحضارة الإسلامية كأن يراد بها أن تكون جسراً للحوار ونشر الإسلام والثقافة الإسلامية ولكنها اندثرت لتصبح إطلالا ومعالم يرتادها السياح والبكاؤؤن والمتطفلون الغرب لتصبح عيون أهلها بهويه أخرى منصهره تتماهى مع زرقه السماء ومن طليطلة قراطيس يرسمون عليها حكاياتهم ومن محاريب مساجد قرطبه إلى تراتيل تتموج بين قبابها متسلقه مٱذانها لكن على جانب آخر يثار كذلك كثير من الأسئلة التي طالما حيّرت المؤرخين مولّدة بينهم رؤىً مختلفة وأحياناً متضاربة أو متناقضة فأحال البعض الأمر برمته إلى السنن الكونية التي وضعها الله سبحانه لمآلات الأمور وأن الأمر كله منحصر في عدم الأخذ بأسباب النصرة والتمكين في الأرض وهي بالطبع وجهة نظر وجيهة لا يمكن إغفالها.
هناك من يذهب إلى أن ممالك العالم الوسيط كانت في طريقها إلى الزوال إن عاجلاً أو آجلاً مع عدم قدرتها على الصمود أمام مقومات العصر الحديث التي مهدت الطريق للدول الحديثة الصاعدة مع أفول القرن الخامس عشر ومطلع السادس عشر.
وذهب فريق آخر إلى أن هذا السقوط مردّه إلى الضعف العام الذي أصاب الممالك الإسلامية في ذلك الوقت فلم تقو على الوقوف لمناصرة حكام الأندلس ودعمهم فضلاً عن أن الدولة العثمانية التي كانت تقريباً هي الوحيدة آنذاك التي لاتزال في طور الصعود من بين الدول الإسلامية لم تحرّك ساكناً وأنها لو كانت قد اتخذت إجراءات حاسمة في هذا الشأن كما فعل المرابطون أو الموحدون من قبل في إنقاذهم للأندلس لما كان حدث هذا الأمر الجلل الذي ترتبت عليه أحداث جسام هددت المنطقة بأسرها.
والسؤال الذي يطرح نفسه عمليًا لم يكن في إمكان المماليك القيام بمثل هذا العمل أولًا لبعد المنطقة عن قواعدهم للدعم والإمداد بريًا أو بحريًا وثانيًا لأن الطريق البحري وهو الأقرب من ذلك البري للأندلس يقع في العمق البحري الأوروبي الذي تسيطر عليه قوى بعضها معادٍ وبعضها الآخر متقلب السياسات غير مأمون الجانب.
لكن قايتباي أبى ألا يمد يد العون لمسلمي الأندلس فأعمل الفكر حتى وجد وسيلة للضغط السياسي
ففي فلسطين كان يقوم كل من كنيسة القيامة ودير صهيون الذين يتولى إدارتهما الرهبان الفرنسيسكان فأرسل قايتباي لقسيسي كنيسة القيامة يأمرهم بمراسلة فرديناند الثاني ملك نابولي لمطالبته بالتدخل لإلزام فرناندو وإيزابيللا برفع الحصار عن غرناطة.. واستغل كون مقدم دير صهيون إسبانيًا وبعثه إلى نابولي لمقابلة ملكها المذكور محملًا برسالة بذات المطلب.
قايتباي اختار نابولي بالذات لكونها ترتبط بمصالح سياسيةوأخرى تجاريةمع المماليك فآنذاك كانت قبرص تحت الحكم المملوكي يتولاها ملوك من آل لويزينيان خاضعين لسلطان القاهرة وكان ملكها قد مات فتنازعت البندقية مع نابولي على إدارتهامع بقاء الوصاية المملوكية فكان بعث قايتباي له بمثابة عقد صفقة ضمنية ساعد على رفع الحصار عن غرناطة والنظر في أمر مطالبتك بإدارة قبرص
كذلك أرسل قايتباي للبابا الكاثوليكي أنوسنت الثامن يطالبه بإقناع الإسبان برفع الحصار وينذره أنه إن لم يفعل فسيغلق المماليك الأماكن المسيحيةالكاثوليكية في دولتهم ومنها كنيسة القيامة وأنه سيوقع العقاب بالفرانسيسكان في السلطنة
سارع كل من ملك نابولي وبابا روما لمخاطبة فرناندو وإيزابيللا برفع الحصار بل سافرا إليهما في محاولة مستميتة لذلك ولكن الملكين المتعصبين كاثوليكيًا أصما آذانهما عن تلك التوسلات فضلًا عن انهيار المقاومة الغرناطية وتسليم البيت الحاكم بالأمر الواقع وإعلانه الاستسلام للخصوم
إضافة لتلك الجهود المملوكية استغل قايتباي انتهاء الحرب مع بايزيد الثاني بوساطة تونسيةوتبادل العاهلان الرسائل لتدارُس فكرة القيام بعمل عسكري مملوكي عثماني مشترك لإنقاذ الأندلس ولكن عرقلت ذلك الظروف الداخلية للدولتين سواء بوفاة قايتباي ونشوب فوضى حكم من بعده أو بالصراع الداخلي على العرش العثماني في نهايات عهد بايزيد والتفات خلفه سليم الأول لتوجيه قوته الضاربة ضد جيرانه المماليك، العثمانيون بالفعل لم يحرك لهم ساكناً وهم يرون بأعينهم سقوط غرناطة ولو أنهم تحركوا فعليًّا فلماذا فشلوا في ذلك وللإجابة عن هذا السؤال لابد من طرح سؤال آخر وهو هل كانت الظروف الدولية فضلاً عن الظروف السياسية والاستراتيجية الخاصة بالدولة العثمانية نفسها مهيأة لهذا الأمر وعند هذه النقطة لابد من إدراك السياق التاريخي المرتبط بالحدث فضلاً عن مجمل الصراعات الدولية القائمة آنذاك مما يقود إلى فهم أعمق المسببات والنتائج
من أشهر أكاذيب العثمانيين الجدد أن “الدولة العثمانية جاهدت دفاعًا عن الأندلس” وهي كذبة من فرط جرأتها من ناحية ومداعبتها “نوستالجيا الجهاد” عند الإسلاميين من ناحية أخرى قلما تجد من يجرؤ على مواجهتها والرد عليها وهنا يجب أن تكون لنا وقفة فالعثمانيون الجدد يدعون أن الدولة العثمانية قد حاربت إسبانيا عقابًا لها على تنكيلها بالمسلمين واضطهادها لهم ولكن الواقع التاريخي يكشف كذب هذا الادعاء فإسبانيا آنذاك كانت تحت حكم أسرة هابسبورج وعاهلها العتيد شارل الخامس المعروف فشارلكان ولأسباب تتعلق بالمصاهرات والوراثة في أوروبا فقد وجد شارل الخامس نفسه ملكًا على إسبانيا وألمانيا وأجزاء من إيطاليا فضلًا عن أوروبا الشرقية وبالفعل فقد تلقب ب”إمبراطور الإمبراطورية الرومانية المقدسة”
وأوروبا الشرقية هي مربط الفرس هنا فلطالما كانت مسرحًا للعمليات العسكرية التوسعية العثمانية مما خلق الصدام بطبيعة الحال بين آل عثمان وآل هابسبورج فكان عرض خير الدين للعثمانيين بأن يكون لهم “ذراع عسكري” مواجه مباشرة لإسبانيا من جهة البحر بمثابة فرصة لفتح جبهة جديدة ضد عدوهم الرهيب بمعنى أوضح فإن حرب العثمانيين ضد الإسبان كانت مجرد مرحلة من صراعهم مع آل هابسبورج وليست “حربًا جهادية مقدسة” أطلقتها الاضطهادات الإسبانية للمسلمين والدليل أن مسلمي الأندلس المعروفين بـ”الموريسيكيين” بعثوا الاستغاثات والرسائل للباب العالي ولكنهم لم يكونوا يتلقون سوى التعزيات والوعود ورسائل التشجيع المعنوي دون أي مجهود فعلي لنصرتهم وأقصى ما كان تحركات رمزية عثمانية ظاهرها “نصرة المسلمين” وحقيقتها أنها جزء من حرب أكبر من الأندلس نفسه
فلم يكن إذاً أمام هؤلاء المضطهدين إلا أن يستغيثوا بأمراء البحار المسلمين المنضوين اسميًا تحت العلم العثماني فكان الموريسيكيين يتخابرون مع هؤلاء ليدلوهم على عورات الإسبان وكان أمراء البحار المذكورة يستخدمون تلك المعلومات لضرب معاقل العدو قبل أن يداهم شمالي إفريقيا مستغلين ثورات الموريسكيين
الجدير بالذكر أن الدولة العثمانية قد وجهت الأمر لأمراء البحار هؤلاء بالتعاون مع البحرية الفرنسية لأن آل أنجو في فرنسا كانوا أعداء آل هابسبورج الإسبان الذين كانوا يدعون الحق في العرش الفرنسي فتحالف كل من الفرنسيين والعثمانيين ضد الإسبان أي أن الأمر لم يكن “حربًا صليبية إسلامية” كما روج له دعاة العثمانيين بل كانت حرب مصالح وما الأمر العثماني لقادة البحر في شماليّ إفريقيا بمضايقة الإسبان إلا دعم لفرنسا الحليفة بطريقة “أعداء أعدائي هم أصدقائي”ولكن كان لسان حال العثماني يقول “دعنا نضفي على ذلك ذريعة الجهاد لنصر المسلمين المستضعفين في الأندلس لننال فوق المكسب الحربي مكسبًا معنويًا”
الأمر إذن بالنسبة للعثمانيون لم يكن يعدو صفقة جديدة فتح جبهة غربية لمضايقة أعداءهم لا تكلف الدولة العثمانية سوى بعض التواجد الرمزي بينما يقوم بالعمل الفعلي غيرهم مما يخفف الضغط الهابسبورجي عن الجبهة الشرقية أوروبا الشرقية والمزيد من البريق على الصورة الوهمية للعثماني أنه حامى حمى المسلمين في كل مكان
جعجعة عثمانية بلا طحن ثمة مثل يقول “الصَيت ولا الغِنَى” معناه أن البعض يبحث عن “الصيت والشهرة” وليس عن الإغناء حقًا عمّا يُنتظر منه هذا بالضبط ما ينطبق على موقف العثمانيين من الأندلس وقضيته فعندما تلقفت أبواق دعايتهم نصرة الأندلسيين كان هذا بمثابة رد فعل لرسائل استغاثات الأندلسيين وليس فعلًا من تلقاء أنفسهم ورغم أنهم العثمانيون كانوا آنذاك قوة لا يستهان بها إلا أنهم لم يدخلوا شكليًافي اللعبة إلا عندما وجدوا فيها مصلحة لهم وحتى عندما دخلوها قاموا باستغلال جهود محلية لمجاهدين شبه مستقلين بينما اكتفى الباب العالي بدور “المشجع” وقام من وقت لآخر بإرسال قائد هنا وبضع مئات من الجند هناك على سبيل حفظ الوجه وإثبات الحضور ولكن تلك الجيوش الجرارة التي سيقت لغزو فارس والشام ومصر والعراق وشرق أوروبا لم يكن لها من حضور عندما وجد العثماني أن “الجدوى” من تسييرها لا تستحق وفق رؤيته النفعية عناء ذلك
وإن كان الواقع التاريخي يقول إن قانون المصلحة والمنفعة هو الذي يحكم تحركات وسياسات الدول وليست المشاعر والعواطف المثالية فإن الجرم العثماني هنا ليس في عدم الاعتناء كما يجب بقضية الأندلس وإنما في استغلال مأساة الموريسكيين من ناحية كبوق دعائي لهم وفي الوثوب على إنجاز وكفاح المجاهدين في البحر وسرقة فضله ونسبه لأنفسهم بكل صفاقة من ناحية أخرى
وعلى الرغم من هذا الاستنجاد فضَّل العثمانيون البقاء بعيدًا عن الأندلس ومأساتها منشغلين بحربهم على دولة المماليك في الشام ومصر بسبب نزاعات بدأت في عهد السلطان محمد الفاتح
لن يمحو التاريخ الإسلامي هذه الفضيحة المدوية التي تكشف بصدق كيف انحاز العثمانيون لمصالحهم وتركوا الأندلسيين لمصيرهم المحتوم المنظور الديني صاغ تاريخها بقداسة
يتداخل التاريخ بالأساطير بشدة عندما يتم توظيف التاريخ توظيفًا دينيًّا لخدمة أغراض سياسية ونجد ذلك واضحًا في حالة الدولة العثمانية عندما يُعالج تاريخها من المنظور الديني فقط ويكون التركيز على أنها آخر خلافة إسلامية ويكون نتاج ذلك تاريخًا ناصع البياض تاريخًا مقدسًا مع أن التاريخ الحقيقي بطبعه رمادي اللون لذلك نجد تاريخ الدولة العثمانية لدى كتابات الإسلام السياسي ناصع البياض مغلفًا بحكايات الأساطير تاريخًا شبه مقدس وربما أبعد ما يكون عن الواقع التاريخي الرمادي
وإن كان قيام العثمانيين القدامى بذلك من باب الصفاقة فإن ترديد أشياع العثمانيين الجدد لتلك الكذبة نفسها هو أمر لا يمكن وصفه بأقل من الحماقة.
ولكن التاريخ لا يجامل ووقائعه المتفق عليها لا تحب من يعبث بها فلننظر إذاً في تفاصيل القصة لندرك حقيقة الزعم العثماني وأبعاد الأكذوبة
كانت غرناطة المعقل العربي الإسلامي الأخير في الأندلس سقطت الأندلس على يد الإسبان وآخر ما سقط منها غرناطة وكان المسلمون في الأندلس يستغيثون سفارات تلو أخرى قادمة من بلاد الأندلس الرطيب التي أصبحت قرارًا وهلاكاً للمسلمين فيها والسقوط في هاوية محاكم التفتيش بات واقعًا ومع ذلك لم يستجب الكثيرون لاستغاثاتهم.
ويدعي البعض أن الدولة العثمانية كانت دولة جهاد إسلامي وأنها تعمل على رفع راية الله وحماية المسلمين وأنها دولة فتوحات لكنها كان تعمل على تحقيق طغيانها وتسلطها وتكوين إمبراطوريتها على جثث وجماجم الشعوب.
غلَّب العثمانيون مصالحهم في المحيط الأوروبي على الاستجابة لسفارات الأندلسين
العثمانيين لم تكن لديهم النية لاسترداد الأندلس وتعاملوا مع الأندلسيين بمنطق براغماتي يخدم الطرح الكولونيالي للأتراك العثمانيين.
أرَّخت لفترة سقوط الأندلس بأن العثمانيين تعاملوا مع نداءات الاستغاثة التي وجهها الأندلسيون بنوع من الحذر وقدر كبير من البراغماتية رغم عمليات القرصنة المتكررة التي قام بها الأَخَوان عروج وخير الدين بربروسا والتي كان الغرض منها ممارسة نشاطهم الأصلي باعتباره مصدرًا رئيسًا لتمويل سياستهم الاستعمارية بعيدًا عن دوافع الجهاد أو استرداد أراضي المسلمين.
العثمانيين كانوا يَتَخَوَّفون في حالة نجاحهم في حرب استرداد الأندلس أن يطالبهم العرب بأحقيتهم في حكم الأندلس خاصة أن هؤلاء كانوا يلتمسون مساعدة الأتراك في هذه الحرب على ألَّا تحل محلهم كونهم أصحاب الشرعية التاريخية والدينية في حكم الأندلس على اعتبار أن العرب كانوا ينظرون إلى أنفسهم امتدادًا للسلالات العربية التي حكمت هذه البقعة ولن يقبلوا بفكرة تغيير الاحتلال الإسباني باحتلال عثمانى
يحتج “العثمانيون الجدد” بشخصيتان من التاريخ الإسلامي في البحر المتوسط هما “عروج باشا” وأخوه “خير الدين بارباروسا”باعتبار أن أعمالهما تمثل دليلًا على أن العثمانيين كانوا مجاهدين في سبيل الله يدافعون عن مسلمي الإندلس
الواقع أن شيوع هذا الزعم هو نتيجة لجهل الكثيرين بالفرق بين “تركي” كهوية عرقية و”عثماني” كهوية انتماء للدولة وافتراض أن كل تركي هو بالضرورة من العثمانيين فضلًا عن أن العثمانيين قد أجادوا لعبة الدعاية واللعب على العاطفة الدينية فاستغلوا أعمال الأخوين عروج وخير الدين لصالح دعايتهم بأنهم العثمانيين هم “درع الإسلام وسيفه”
فعروج وخير الدين لم يكونا عثمانيين بل كانا من مواليد اليونان وقد استهوتهما حياة البحر والمغامرة فكوّن عروج سنة ١٥١٠م أسطولًا صغيرًا من عشر سفن وطاقمًا ضم تركًامن العثمانيين وغيرهم وعربًا وعناصر من البربر بل من الأوروبيين الذين اعتنقوا الإسلام، وراح يمارس القرصنة ضد السفن الأوروبية في شرق المتوسط وأرخبيلات اليونان
جدير بالذكر أن في ذلك الزمن كانت القرصنة أحيانًا ما تُمارَس لأغراض “وطنية” بمعنى أن القرصان يتخصص في مهاجمة سفن أعداء بلاده وهو أمر كان مألوفًا سواء بين القوى الإسلامية وتلك الأوروبية أو حتى في حروب الأوروبيين ضد بعضهم بعضًا كحروب إسبانيا وإنجلترا
ولكن سيطرة العثمانيين على تلك المنطقة من البحر المتوسط عوضًا عن كل من البندقية وجنوة دفعت عروج لنقل نشاطه غربًا من ناحية لعدم الاصطدام بالعثمانيين ومن ناحية أخرى لتتبع السفن الأوروبية غربًا واصطيادها.. بل أقام له إمارة مستقلة في جزيرة “ِجربة” في تونس ولكي يضفي شرعية على أعماله دخل في خدمة باي حاكم تونس وأبدى ضروبًا من الشجاعة والحنكة في تصديه للعدوان الأوروبي على شماليّ إفريقيا والعثمانيون، أين كانوا من كل هذا فهم كانوا يكتفون بإرسال رسائل المباركة لتلك الجهود ويتلقون مقابلها الثناء والتعظيم دون أن يبذلوا جهدًا يُذكَر اللهم إلا إرسال بعض القادة بقوات رمزية للمشاركة في عمل يتلق العثمانيون الفضل عليه بينما قد حمل عبئه فعليًا خير الدين بارباروسا ومن خلفوه في القيادة وجنده من المجاهدين سواء من شماليّ إفريقيا أو من الأندلسيين الفارين الذين تطوعوا معهم حتى استغاث به الجزائريون لإنقاذ ميناء “بجاية” من أيدي الإسبان فحرره منهم وجعله مركزًا لعملياته، ثم نقل هذا المركز لمدينة جيجل الجزائرية.. كل هذا بجهوده الذاتية وباسمه وليس باسم العثمانيين الذين كانوا آنذاك زاهدين في ممارسة النشاط البحري غرب المتوسط وراح عروج يحارب على جبهتين فكان من ناحية يستغل فوضى الإمارات والمدن في شماليّ إفريقيا والمغرب الأوسط لإسقاط حكوماتها وفرض سيطرته عليها، ومن ناحية أخرى استمر في تحرير الثغور الإفريقية الشمالية من الحاميات الأوروبية المحتلة ولكن عروج لقى نهايته قرب مدينة تلمسان حيث حوصر من القوات الإسبانية وتعرض للخيانة من الداخل فحاول الفرار لمدينة الجزائر حيث تتبعه الإسبان ليستشهد في الطريق.. ولتنتقل القيادة لأخيه “خير الدين”
تلفت خير الدين حوله فوجد أنه قد أضحى قائدًا على قوة ضعفت كثيرًا عن ذي قبل وسط جو من المؤامرات والخيانات وتهديدات إسبانية مستمرة فضلًا عن أن شعبيته كانت أقل من تلك التي حظى بها أخوه ولكن يبدو أنه كان أكثر (براجماتية) وعملية من الأخ الراحل وهنا بدأ دوره الدولة العثمانية
فقد قرر خير الدين الانضواء تحت راية العثمانيين باعتبارهم “السادة الجدد”فراسل سليم الأول سنة ١٥١٩م وضمّن رسالته توسلات لربط قضية الجزائر بالعثمانيين والتماسات من القضاة والفقهاء والأعيان ومختلف الفئات للسلطان بأن يضع الجزائر تحت تصرفه بلغت حد أن وصفوا أنفسهم أنهم “عبيد للدولة العثمانية” وهي رسالة كتبوها بأمر من خير الدين وليس من تلقاء أنفسهم وختم رسالته بأنه كان ليتوجه بنفسه إلى اسطنبول ليمثل بين يديّ السلطان لولا توسُل الجزائريين له خير الدين أن يبقى بينهم ليحمي بلادهم
لم يتردد سليم الأول في تلقف الفرصة فمن حيث لا يدري وجد قطاعًا كبيرًا من موانئ غرب المتوسط يفتح له ذراعيه بغير تكلفة فأرسل لخير الدين تقليدًا على حكم الجزائر وفرمانًا بتلقيبه “بكلربك”وهو أرفع لقب لوالي عثماني وبعث له بألفيّ جندي إنكشاري يساعدونه كانت صفقة رابحة للطرفين إذاً فخير الدين لم يعد قرصانًا أو محاربًا جوالًا بل صار واليًا وقائدًا عثمانيًا، والعثمانيون ربحوا أرضًا بثمن لا يُذكَر.. بل وزادوا فعيّنوا خير الدين قائدًا لأسطولهم لاستغلال مواهبه ومهاراته رغم أن الأهالي طالبوا العثمانيين بتركه مرابطًا في شمالي إفريقيا لشدة احتياج الجبهة لوجوده وقيادته ولكن العثماني كالعادة قدّم مصلحته على مصلحة الولاية
انشغل العثمانيون في حربهم ضد المماليك وعقدوا صفقات مع الفرنسيين ضد الإسبان للسيطرة على الجزائرلأسباب تخص السلطنة التركية وإرسال بعض فرق الاستطلاع إلى بعض المدن فقط.
كانت نكبة مسلمي الأندلس نتاج مؤامرات داخلية وخارجية ورغم أن بعض المصادر أوحت بأن ملوك الطوائف وما كان لهم من أسباب ضياعها والحال الذي وصل إليه المسلمون إلا أن ذلك لا يمنع ولا يُبرء ساحة الدولة التي ادعت أنها حامية لديار المسلمين.
كانت الاستغاثات مؤلمة من أجل طلب العون والمساعدة وأصبحوا في حالة يرثى لها، خاصة بعد ثورتي البيازين والبشرات التي أسفرت عن تهجير أعداد كبيرة من المورسكيين إلى خارج الأندلس والأدهى من ذلك العمل على تنصير من اضطر قهرًا أن يبقى داخل الحدود بموجب قانون تم اصداره سنة ١٥٠٢م وقد كانت المعاناة الحارقة ممتدة بين عامي ١٤٩٩م- ١٥٠١ م.
قبل سقوط غرناطة بنحو نصف قرن ومع انحسار النفوذ الإسلامي في الغرب كان التمدد الإسلامي بقيادة العثمانيين يشق طريقه بقوة في شرق أوربا حتى إذا فُتحت القسطنطينية عام ١٤٥٣م على يد محمد الفاتح (حكم ١٤٥١ – ١٤٨١م) كان ذلك إيذاناً بإمكان تصدر هذه القوة الإسلامية الفتية الساحة أمام الزحف الصليبي المتنامي إلا أن بُعْد المسافة آنذاك واشتعال الصراع في المشرق كانا ينبئان ضمناً بأن الوقت لايزال مبكراً جدًّا للحديث عن انتقال ثقل الصراع العثماني الصليبي إلى الغرب.
لقد وضع الفاتح يده على مفتاح أوروبا الشرقية وامتلك الزمام الذي يُمَكِّنَه من بسط سيطرته على ما تبقى من أراضي الإمبراطورية الشرقية المنهارة لكن ذلك كان في إطار توجهه لتكوين إمبراطورية إسلامية عالمية ترث كذلك إمبراطورية الغرب المسيحي كما ذكر حاكم جلطة في رسالة كتبها بعد فتح القسطنطينية بنحو شهر جاء فيهاإن السلطان محمد الفاتح يهدف إلى أن يكون سيّد العالم وأنه قبل أن تمضي سنتان سيزحف إلى روما فإن لم يأخذ النصارى حذرهم أو تحدث معجزات فإن مأساة القسطنطينية ستتكرر مرة أخرى في روما
وفي واقع الأمر كان الغزو العثماني لإيطاليا بعد فتح القسطنطينية مباشرة أمراً مستبعداً في ظل الأوضاع السياسية القائمة في ذلك الوقت حيث كان التفوق البحري لايزال قائماً للدول الأوربية في البحر المتوسط خاصة للبندقية فضلاً عن وجود بؤر استيطانية مسيحية في أماكن استراتيجية في ألبانيا والمورة هذا غير الصراع القائم في بحر إيجة والذي شكّل عقبة أمام