
الوهن الذي أوصلنا إلى هنا
محمود سعيدبرغش
في خضم المذابح والدمار، وسط صرخات الأطفال تحت الأنقاض وصور البيوت المهدمة، نجد أنفسنا غارقين في زينة الدنيا، منشغلين بالمأكل والمشرب والمسلسلات، كأننا في عالم آخر، وكأن هذا الدم المسفوك لا يعنينا. هذا الشعور باللا مبالاة ليس مجرد ضعف، بل هو الوهن الذي حذرنا منه النبي ﷺ حين قال:
“يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها” فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: “بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن”. قيل: يا رسول الله وما الوهن؟ قال: “حب الدنيا وكراهية الموت”. (رواه أبو داود وصححه الألباني)
إسرائيل مطمئنة.. ولكن لماذا؟
ليس غريبًا أن تطمئن إسرائيل للحكام، فهذا أمر مفهوم، فجلّهم منذ عقود يرضخون للضغوط الدولية، ويتحركون في مساحات محددة لا تخرج عن السقف المرسوم لهم. لكن العجيب اليوم هو هذا الاطمئنان العلني للشعوب المسلمة نفسها، بل وفي شهر رمضان، حيث كان يفترض أن تكون النفوس أكثر ارتباطًا بالقيم الإيمانية وأكثر إحساسًا بمعاناة المستضعفين.
هذا الاطمئنان الإسرائيلي لم يأتِ من فراغ. لقد نشأت أجيال على استهلاك المتعة، والانشغال بترف الحياة، والخوف من أي خسارة ولو بسيطة. فأصبح الفرد يخشى أن يُمنع عنه مصدر رزقه، أو أن يخسر راحته، أو أن يُضيق عليه، ولو كان الثمن هو الصمت عن الجرائم أو حتى تبريرها ضمنيًا بالانشغال عنها.
قال الله تعالى:
﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾ (الرعد: 11)
حين تصبح الحياة أثمن من الكرامة
نرى اليوم تناقضًا مريعًا بين الصور: على شاشة، هناك مشاهد قتل ودمار، وعلى شاشة أخرى، إعلان عن ملابس العيد وحلويات رمضان. هذه ليست مجرد مصادفات، بل هي انعكاس لحالة من الهروب الجماعي من الواقع، ومحاولة إقناع الذات بأن “الحياة مستمرة”، ولو على حساب الكرامة.
ولكن الحقيقة التي يجب أن يدركها الجميع: أن هذا الانغماس في الحياة الدنيا، وهذا الحرص على الحفاظ على مكتسباتها، هو السبب المباشر فيما نراه من مشاهد القتل والدمار. لأن العدو يدرك أن خوفنا من فقدان هذه الحياة هو سلاحه الأقوى ضدنا. فالذي يخشى خسارة بيته، أو وظيفته، أو مكانته، لن يتحرك لنصرة مظلوم، ولن يعترض على جريمة، بل ربما يبررها أو يتجاهلها ليحافظ على مكتسباته.
وقد حذرنا الله من هذا التثاقل إلى الدنيا فقال:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ ۚ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ ۚ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ﴾ (التوبة: 38)
كيف كان الخلفاء يفهمون القوة؟
لم يكن الخلفاء الراشدون يَرَون القوة في العتاد فقط، بل في العقيدة والهيبة، وفي عدم الرضوخ للعدو مهما كانت الظروف. فقد أدركوا أن الخضوع يؤدي إلى مزيد من الذل، بينما الصمود والمواجهة يحفظان الكرامة والدين.
عمر بن الخطاب وهيبة المسلمين
عندما جاء رسل كسرى إلى المدينة يبحثون عن قصر الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فوجئوا بأنه نائم تحت ظل شجرة بلا حراس، فقالوا مقولتهم الشهيرة:
“حكمت فعدلت فأمنت فنمت يا عمر”.
هذه الهيبة لم تأتِ من ثروة أو جيش جرار فقط، بل من العدل والقوة الداخلية التي جعلت أعداء المسلمين يهابونهم.
هارون الرشيد ورسالة نقفور
حين أرسل الإمبراطور البيزنطي نقفور رسالة تهديد إلى الخليفة العباسي هارون الرشيد، يطالبه بإيقاف الجزية، رد عليه هارون برسالة مختصرة قال فيها:
“من هارون الرشيد أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم، الجواب ما تراه لا ما تسمعه”.
ثم قاد بنفسه جيشًا اجتاح بلاد الروم، فاضطر نقفور إلى طلب الصلح ودفع الجزية من جديد.
المشكلة ليست في العدو، بل فينا!
إن الشعور بالغضب من القاتل طبيعي، والشعور بالحزن تجاه الضحايا مفهوم، لكن الشعور الأهم الذي يجب أن يسيطر علينا هو الخوف من غضب الله علينا نتيجة خذلاننا وعجزنا.
قال النبي ﷺ:
“ما من امرئ يخذل مسلمًا في موضع يُنتَقص فيه من عرضه، ويُنتهك فيه من حرمته، إلا خذله الله في موطن يحب فيه نصرته، وما من امرئ ينصر مسلمًا في موضع يُنتَقص فيه من عرضه، ويُنتهك فيه من حرمته، إلا نصره الله في موطن يحب فيه نصرته”. (رواه أبو داود وحسنه الألباني)
لو أدركنا هذه الحقيقة، لتغير كل شيء. لأن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. لو أيقنا أن الهروب من المسؤولية لن يعفينا من الحساب، وأن الحياة التي نتمسك بها بهذه الصورة ستصبح هباءً إن لم يكن لها معنى أعظم، لاستيقظت الأمة من غفلتها.
ما الحل؟
إدراك أن الانشغال بالدنيا لا يُنجي من مصير الأمة، بل يُسرّع في هلاكها.
إعادة فهم الأولويات: فكر جيدًا، ماذا لو كنت أنت مكان هؤلاء المستضعفين؟ ماذا كنت تتمنى من إخوانك؟
كسر دائرة الوهن، واتخاذ مواقف، حتى لو كانت صغيرة، لكنها تُعبر عن رفض الظلم وعدم الرضا عنه.
نشر الوعي، ولو بالكلمة، حتى لا يصبح الصمت ثقافة، وحتى لا يتحول التخاذل إلى حالة طبيعية.
إن لم نتحرك اليوم، فمتى؟ وإن لم نُراجع أنفسنا الآن، فمتى؟ فليكن خوفنا الحقيقي ليس من خسارة الدنيا، بل من خسارة رضا الله وسخطه علينا.