مقالات

اوجاع وطن . بقلم حنان قدامة

اوجاع وطن . بقلم حنان قدامة

كانت شمس الغروب تتهاوي إلى مرقدها ،حينما وطات قدماه أول مرة حي الغجر بالجبل المقدس.قاده الى ذاك الحي شغفه بفن الفلامنكو الذي كان يتنفس فيه طيب أجداده من فلاحي الاندلس المنكوبين.
بتردده على ذلك الحي الساحر نشأت صداقة بين “محمود” العربي و”كارلوس ” الغجري الغرناطي.قوى صداقة الرجلين الاحساس المشترك بالاضطهاد والحنين إلى ديار اجداد كانوا هنا في غرناطة…..كانوا هنا في حي الغجر “بساكرو مونتي”بكهوفه المدهشة وفي حي العرب ” البيازين” بشوارعه الضيقة المرصوفة بالحجارة ،ببيوته البيضاءالمبنية على الطراز العربي التى يكللها قرميد يتزين بتعاريش كروم العنب الخمري والياسمين البيضاء.. وتعبق شرفاته واصص جدرانه المعلقة باريج الاس الفوا ح.
وهما يتجولان ذات صباح في الحي العربي يقطع صمتهما الحزين حديث محمو د:
__اتدري يا كارلوس هذا الحي العربي هو اقدم أحياء اوربا….. تواجدنا فيه منذ خمسة قرون……تواجدنا فيه قبلكم انتم الغجر.
بهدوء ا عقب على كلامه “كارلوس”
___ايا كان الامر فنحن تجمعنا عدة أمور…..يجمعنا وجع الظلم يجمعنا فن الفلامنكو….و قصائد شاعر غرناطة الكبير. “لوركا”

كما تجمع بيننا كهوف ساكرومونتي.
كهوف ساكرومونتي ؟يتساءل “محمود” والدهشة تعلو محياه ليلطف به. “كارلوس”مجيبا:
_’نعم كهوف ساكرومونتي لعلك لا تدري أن العديد من المورسكيين قد اختباوا في كهوف الغجر وانضموا اليهم للافلات من بطش القشتاليين فتظاهروابأنهم غجر مثلنا.
مثل كثير من الغجر كان “كارلوس” رجلا مجسدا للغرابة ،براسه المشتعلة شيبا ،بوشومه المرسومة على ذراعيه على أشكال ورق الشجر ،بملابسه المبهرجة. ولفافته المعقودة بدلال على رقبته.لاتراه إلا حاملا فيتارته الوترية أو مداعبا أوتارها فتصدح انغامها الحزينة في الفضاء تجعل الزمان يتفلت من بين أيدي السامعين فتخشع الاصوات لجمال صوت كارلوس ولجلال بوح الغجر.
ذات ليلة من ليالي الغجر الدافئة التى تتدلى فيهاالروح كاسراب النوارس كما وصفها عندليب الاسى “لوركا”صدح صوت” كارلوس “باغنية الفلامنكو الشهيرة:

تحت السماء الاندلسية غرناطكة مقطوعة تنشد
غرناطة مسلمة ومسيحية …..
من اجلك بكى أبو عبد الله ….
تلك الليلة بكى” محمود ،،…..بكى لبكاء أبي عبدالله الصغير *اخر ملوك الاندلس *وهو يسلم مفاتيح غرناطة للقشتاليين..بكى محمود على وطن ضاع وعلى وطن سجين يهدده الضياع وتتربص به نكبة ثالثة
كفكف *كارلوس*دموعه وهو يقول :
–لا أدري سر تعلقكم بالوطن.بصوت مبحوح اجابه *محمود*
___ انتم الغجر لستم مثلنا انتم شعب بلا ارض…. انتم أبناء الريح
عاشقون للترحال ..انتم كالماء يتشكل حسب الاناء…نحن عكسكم ..نحن أبناء الأرض… وجداننا مغروس في ترابها ونبضات قلبنا ساكنة في ثراها ..عندما تتوجع ارضنا نتوجع معها نحن عكسكم انتم رحل تهجرون الديار بينما نحن نهجر منها.

_اتفهم احساسك صديقي يستدرك” كارلوس” …نحن الغجر كل الأرض أرضنا والتسكع لعنتنا…..

لم يكمل “كارلوس”حديثه مع محمود .التحق بفرقته الغجرية ليواصل الغناء …هذه المرة شاركته الغناء ابنته”سوليداد ” كانت ترتدي زيا غجريا مزكرشا ومرصعا بازرار لامعة ….تزين رجليها بخلاخل كبيرة واذنيها باقراط من الفضة تضفي بريقا على الغجرية الحسناء…

تعالت تصفيفات “سوليداد “عندما شرع الراقصون الغجر في الرقص ..جنى عليه خياله تلك الليلة …..احاله على بيادر القدس … على مراتع صباه التى كانت تصدح باهازيج الفلاحين الساكنة في أحلامه وهم يرقصون الدبكة الفلسطينية شامخي الهامة ..تتشابك اياديهم وتضرب اقدامهم الارض في دلالة على عمق الانتماء للوطن.

انتهى الحفل متاخرا .تواعدا بعده الصديقان على اللقاء صباح الغد .كان الغد موسوما بالاحزان …. هو يوم غرناطة السنوي الذي تعانق فيه الاشجان محمود العربي ..حيث يحتفل فيه الاسبان بذكرى طرد. المورسكيين من غرناطة منذ خمسة قرون .بحسرة همس “محمود”في أذنيي كارلوس الذي كان يتابع الاستعراض الفني:

_كم هو قاس ان تختلط عليك الأصوات… تختلط تهليلات المحتفلين الفرحين بزفرات المطرودين المنكوبين …
ربت كارلوس على كتفيه مواسيا وهو يقول___هون عليك ياصديقى ..فالتاريخ له أحكامه.

_’اعرف ذلك غير اني ارجو ان يحكم التاريخ الذي سيكتب مستقبلا لصالح وطني ..ان يراف باوجاعه..فالموت يجتاح سيدة الارض..يجتاح ارض فلسطين … فعلى ارض فلسطين ما يستحق الحياة ….*محمود درويش*.

بقلم حنان قدامة.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى