بين شيئين._ بقلم ماجدة الغروادى

بين شيئين._ بقلم ماجدة الغروادى
وقفت في نفس المكان بنفس الفستان، أحمل نفس الحقيبة وبداخلها نفس الكتاب، والمفكّرة وأحمر الشفاه. وقفت أشهد ذكرياتنا القديمة. هبَّت الرّياح نفسها، مال العشب نفسه والشَّجرُ، تراقصت الأزهار والنباتات في صمت كما هو معتاد؛
كما اعتادت أن تفعل حين يُقبل إليها أحدنا. وحدها الشّمس السّاطعة مُظلمة، لم تبتسم حين انتبهت لوجودي… لما الشمس مظلمة هكذا؟ تساءل رجل كبير في السّن كما يبدو، كان جالسًا بالقرب منّي. لا يعرف أنّها شاهدة على وجعٍ أليمٍ حدث قبل نصف قرن من الزّمن هنا
. في نفس المكان، في نفس المقعد الذي أتشارك وإيّاه الجلوس فوقه. ها أنا بفستاني الأرجواني الجميل، أجلس، أنتظرك. علّمتني أمّي أن لَّا أنتظر أحدًا، وأبي لم يجعل منّي فتاة مهيأة للانتظار. ومع ذلك، إنّي جالسة أنتظر، أنتظرك. إنّ أبي وأمّي قطعتين مهمّتين. لم يسبق لي أن حدّثك عنهما، وعن علاقتي القويّة بهما. سأحدّثك فيما بعد، لا أريد أن أفكّر بهما الآن، لا أريد أن أبكِ. تنزل دموعي وأحنُّ إلى البيت وأجوائه، إنّي أحبّهما بعمق شديد. لم أنم البارحة، نمت ساعة بعد الفجر. أجل ذلك هو السّبب. تلك التّغيّرات التي تحدث بشكل منتظم في جسمي كل شهر. مرّاتٍ أشعر بألمها ومرّاتٍ أخرى لا أشعر. عمومًا لا أشعر بما تشعر به الغالبية العظمى من الفتيات. حين تقترب دورتي تتبدّل حالي وتتغيّر. آلام عجيبة تحدث على مستوى النّفس وكيمياء أعجب.
أنا حين تقترب دورتي أصبح أكثر رهافة وشاعرية ونشاط. تلتهب مشاعري، أستشعر قوة التغير الذي يحدث بجسدي، تؤلمني بشكل لذيذ أماكن بعينها، لا تقدر يدي على لمس ما فوق بطني لتخفيف شدّة الألم، ألم خفيف شّديد في الآن ذاته. الأمر خيانة، يد واحدة ستفعل ذلك. تؤلمني شفاهي، قلبي، وأمتلئ بأشياء كثيرة. أقع في حبُّ كل الأشياء من حولي، كل شيء يبدو لي جميلًا، ساحرًا… أين القبح الذي صدعوا رؤوسنا به ؟ رغبتي بك وبالحياة تزداد جنونًا. ورغبتي بإنهاء كل شيء تزداد أيضًا. رغبتي بالموت. أزداد قلقًا وعطشًا للقراءة التّعلم، أجدني أقرأ في كل لحظة، أعانق الكتاب ولا أتركه إلا إذا دعتني الضّرورة للقيام بشيء مُهّم.
إن أنا تركت الكتاب فقد سلّمت نفسي للفراغ اللاّهب والملتهب. يزداد عشقي للكتابة، تلك الحرب الأقوى والأكبر والأشدّ فتكًا بي. إنّي أعيش احساسين متناقضين؛ فرحة وحزينة، أحمل عاطفة مجنونة وفي الوقت ذاته مستقرة ومتوازنة ! أنظر إلى الفراغ حولي أسعد به، كوني قادرة على تحقيق فرادتي الشخصية في عالم لا يؤمن بالخصوصيّة. إلاّ أنّي في الآن ذاته أشعر بالحزن وتتشابك دواخلي كما تتشابك خيوط كبّة الصوف؛ كوني غير قادرة على الاندماج وسط جماعة صغيرة من النّاس. نعم، ربما بشكل فطري لا نقبل مسألة أن نذوب بشكل كامل وسط الجماعة، إلاّ أنّنا نتمنى أن نكون وسطها؛
أن يتمّ منحنا مكانةً ودورًا داخلها. فقط تختلف الجماعة من فرد إلى آخر. وجماعتي التي أودّ الانتماء إليها وبشدّة هي أنت. لا يهمني الآخرون بقدر ما تهمّني أنت أتمنى أنّك تفهم هذا. حين استيقظت لم أقدر على فعل أيّ شيء. ولم أكن قادرة على السفر، حيث المكان الذي أحبّ، بيت الطفولة والشباب. لا شيء مختلف، فقط شهوة حاولت اخمادها بالقراءة والكتابة. فقط صراع يستنزفني، يتّخذ طابع القوة والعنف خلال دورتي. صراع ما بين الشهوة العفيفة والحب العميق، ما بين المشاعر المتداخلة والمتضاربة، والتعطش لشيء أكبر منّي وأقوى. في لحظات السعادة والكآبة أنت حاضر، وموجود بقوة. جلست في مكاننا، جلست بفستاني الجميل أنتظرك وأنتظر أحرف الرّبّ. قطع شرودي وتشتُّتي همسٌ خفيفٌ. كان صوت الرّجل الجالس جانبي. تحدّث
قائلًا: كأنّكِ جئتِ من سفر بعيد! تبدين متعبة… أجبته ساخرة صامتة دون أن أتكلّم أو أن أحرّك شفتاي: جئتُ من أقاصي الرُّوح. تابع حديثه، أفهم من إرتسامات وجهك أنّكِ لست قادرة على الكلام، تكرهين الكلام ولست صمّاء. أشكُّ أنّك سمعتِ ما ردّدت على مسامعك أكثر من مئة مرّة ” لما الشمس مظلمة هكذا؟ ” . ما أودّ قوله، لستُ بالعجز الذي تتصورّين أو الكهولة، لست منفصلاً عن آلام الشّباب وهمومهم، كنت مثلهم. قد أبدو لك رجلاً مُسنًّا، إنّي فعلا مسن، ولم يبقى لي الكثير لأعيشه، ومع ذلك لست مضطرباً ولست خائفًا، لا أشعر بما تشعرين. ابتسمت وقُلت: كل الطّرق تقودني إلى الموت، حيث أذهب أجد الموت، لا قدرة لي على تجاهله ونسيانه، لست الأنفع لهذا الأمر. ردَّ قائلًا: طيّب سأحكِ لك شيئًا وسأسألك سؤالاً ولا أنتظر إجابة. حين كنّا صغاراً كنا نرتعب من “بوعو”. يكفي أن يقول لنا أباءنا أنّ بوعو قادم إلينا حتى ترتعد فرائسنا، لما في رأيك؟ لأنّنا لا نعرف شكله ووجهه، لا نعرفه، نخاف أن يأتِ ليلاً ويخطفنا. الأمر ذاته ينطبق على “بوخنشة” أو ” الشيطان”. وكذلك الأمر ينطبق على الموت. نحن لا نعرف الموت، ولا يجب أن نبحث عن سرّه، يجب أن ننساه، ونسير وإيّاه في نفس الطّريق إلى أن يتمَّ اللّقاء بيننا. علينا أن نهتم بأشياء أخرى، أشياء تُذهب الخوف. أن يكون عندنا يقين شبيه بيقين
عزيزنا زوربا؛ أنّ الحبّ يُذهب الخوف. عدت أتأمّل الشّجر الذي يناطح السّحاب في محاولة صمّ أذني عن أيّ حماقة ستصدر عن هذا الرجل. يا ترى كيف أفهم سلسلة القيم المتحكّمة فينا؟ ما تزال الشمس مظلمة. أخدتني ضبابية الأشياء وغموضها إلى يقين تامّ، أن أتوقّف عن الانتظار. أن أغادر هذا المكان لعلّ الشمس تُشرق بظلمتها. غادرت دون أن أقول شيئًا أو أنظر إلى الخلف. أخدت معي خيبتي وشرودي وحكاية حدثت قبل نصف قرن من الزّمن هنا. في تلك اللّحظة وصلتني قبلات السماء بشكل خفيف ثم اشتدّت، كنت أرتدي فستاناً بارداً في عز الأيّام الممطرة، كنت منتشيّة بلقاء أنتظره وكنت في حالة سكر من الشّهوة. شعرت ببرودة أطرافي، ورغم ذلك تابعت سيري ببطء شديد. فعند هطول المطر حماقة كبيرة أن أركض وحماقة أن أضع مضلّة. أسميها المياه المباركة أو الماء المقدّس
… أشعر أنّي أحتاجه أكثر ممّا تحتاجه الأرض، كأنّه يغسل ذنوبي وينظّف دواخلي، كأنّه إشارة لبداية جديدة. لو تعرفين يا سماء كم تعشق أمي الشّتاء. تابعت سيري منتشيّة بهذا الحبّ الذي سقط في التّصنيف والاختزالية. فحب الشّتاء تجربة إنسانية خاصة يتصوّرها ويعيشها كل فرد وكل عاشق لقطرات الماء. تابعت سيري، وبشدّة كنت أرغب في هذا اللّقاء ولا أرغب به في الآن ذاته.