مقالات

تونس الحره الصفحة السوداء من تاريخ الإستعمار الفرنسي التى لن يمحيها التاريخ   

تونس الحره الصفحة السوداء من تاريخ الإستعمار الفرنسي التى لن يمحيها التاريخ   

تونس الحره الصفحة السوداء من تاريخ الإستعمار الفرنسي التى لن يمحيها التاريخ 

 

 الكاتبه – شيرين أبو خيشه 

 

 نموت أحرارًا دفاعًا عن شرفنا وشرف وطننا أفضل من الحياة في العبودية والذل

         ((المناضل محمد العربي زروق))

 

 تونس أكثر تقدمًا وأوسع نهضة من باكستان نفسها وباكستان مستقلة فينبغي أن تكون تونس مستقلة قبلها.

 ((السيد ظفر الله خان وزير خارجية باكستان))

 

تونس العربية الإسلامية يسكنها ملايين من العرب المسلمين وقد أضيف إليهم بعد الإحتلال الفرنسي مائة وأربعون ألفًا من الفرنسيين ومائة ألف من الإيطاليين أراضٍ خصبة متسعة في الشمال وعلى غابات شاسعة تمتد إلى الجزائر وعلى بساتين تجعل من جهاتها كاملة تعبق بالرياحين في فصل الربيع ونمت غابة زياتينهافي الساحل الشرقي إلى أن بلغت أكثر من عشرين مليون شجرة وتونس غنية أيضًا بمعادنها من فوسفات وحديد ورصاص وزنك وزئبق وفحم أما موقعها الإستراتيجي فهي تفصل البحر الأبيض المتوسط إلى حوض شرقي وحوض غربي وتتحكم في المضيق الرابط بينهما بميناها الحربي بنزرت ومطاراتها ومن البديهي أن أسطورة الإستعمار الذي جاء بنوايا حسنة طيبة ورسالة تمدينية أفتضحت حتى أصبح لا يصدقها أحدٌ وخاصة مُرَوِّجوها إنما الإستعمار في كنهه إستثمار اقتصادي كامل يتبع ضربًا من القانون الحديدي الذي لا يرحم ولذلك المستعمرين الفرنسيين استحوذوا استحواذًا كليًّا على جميع الثروة المعدنية وعلى أخصب الأراضي وعلى غالب منابع الثروة واستثمروا أيضًا جهود التونسيين استثمارًا فظيعًا إذ جعلوهم عمالًا يتقاضون أجورًا طفيفة لا تسد رمقهم ولا تغني عائلتهم من الجوع بل اتخذت منهم فرنسا أيضًا جنودًا يريقون دماءهم للدفاع عنهاوعن إستعمارها تكونت المشكلة التونسية يوم احتلَّت فرنسا الجزائر في أواسط القرن التاسع عشر فأخذت فرنسا تتدخل في شئون تونس شيئًا فشيئًا تمهيدًا للإستيلاء عليها ولم يتيسر لها إحتلالها عام ١٨٨١م إلا بعد مناورات دولية دامت أكثر من ثلاثين سنة وكانت تخشى مزاحمة بريطانيا العظمى لها ومطامع إيطاليا المكشوفة إلى أن تم الإتفاق مع الإنجليز بمساعدة رجل ألمانيا المحنك بسمارك على أن تكون بريطانيا مطلقة اليد في مصر وتكون فرنسا حرة التصرف بتونس أما إيطاليا فوقع إبعادها بإعطاء بعض الترضيات لجاليتها بتونس وهكذا كانت نتيجة وضع المشكلة التونسية في الميدان الدولي إحتلال الجيوش الفرنسية للبلاد وفرض الحماية عليها لأن الدولة الإستعمارية قد أقتسمت العالم في ذلك الحين وتصرفت في الأقطار كما شاءت لها مطامعها إذ القوة بيدها والمال في قبضتها والسياسية العالمية في حوزتها وبمجرد استيلاء فرنسا على تونس أصبحت المشكلة التونسية تحتل مكانًا ممتازًا في السياسية الفرنسية البحتة التي لم تكن واضحة جلية في أول أمرها لأن معاهدة باردو لم تحتوي على لفظة الحماية بل أبقت السيادة التونسية كاملة غير منقوصة وكان المستعمرون ينادون بوجوب القضاء على الدولة التونسية وإلحاق البلاد التونسية بفرنسا مثل ما تم فيما يتعلق بالجزائر وكان الفرنسيون مثل كليمنصو ينددون بالعدوان على شعب صديق ويطالبون بإجلاء الجيوش الفرنسية عن تونس فاتخذ رئيس الحكومة الفرنسية إذ ذاك جول فيري موقفًا وسطًا وقال إن فرنسا لا تريد إستعمار تونس ولا ترمي إلى إدماج ترابها في التراب الفرنسي وإن احتلالها لها إنما هو ضمان لبقائها بالجزائر فسياسة فرنسا نحو تونس تتلخص حسب عباراته في كلمتين لا إلحاق ولا انسحاب أما داخل البلاد التونسية فقد كانت السياسة الفرنسية تناقض ما قررته الحكومة الفرنسية وكان أكبر عامل في تبديلها وقلبها هو المقيم العام بول كامبون الذي اشتهر بمهارته الإدارية بفرنسا ففرض على تونس اتفاقية جديدة إتفاقية المرسى واستدرج الحكومة الفرنسية إلى الموافقة عليها ثم اتخذها أداة للاستيلاء على السيادة الداخلية التونسية وإنشاء إدارة حديثة تكون آلة في قبضته ليتمكن من حكم البلاد حكمًا فرنسيًّا مباشرًا فيتصرف في الميزانية لتنفيذ أغراضه ويشرع في سياسة تنمية الجالية الفرنسية بتشجيع الهجرة ومنحهم الوظائف العامة والأراضي الخصبة ويسرع إلى تقسيم الثروة المعدنية على الشركات الفرنسيةفإذا كان جول فيري بإن بول كامبون هو مستعمرها الأول وواضع أساس جميع المشاكل الكبرى التي جعلت القضية التونسية معقدة متشعبة استعصى حلها على الحكومات الفرنسية المتوالية وحيَّرتها وأفسدت سمعة فرنسا ونزلت بها إلى الحضيض وبقيت المشكلة التونسية في الميدان العالمي بين التناقض والاضطراب بيِّنًا في السياسة الفرنسية نحو تونس فطورًا تسير إلى تطبيق معاهدة الحماية والوقوف عندها ومرة تنتهج السُّنة الإستعمارية التي سنها بول كامبون وهي في تناقضها واضطرابها لم تلتفت إلى العالم وإلى الواقع كأنها ذاهلة بنفسها عن غيرهاوإذا ما وعدت الحكومة الفرنسية وعدًا فسرعان ما تتراجع فيه تحت تأثير جاليتها الاستعمارية بتونس غافلة عما طرأ على العالم كله من تغيير عميق وعما أحدثته الحروب العالمية فيه من تبديل عواصف هبَّت على الدنيا فزعزعت قوات أوروبا الاستعمارية وأضعفتها حربيًّا واقتصاديًّا حتى أصبح مركزها اليوم أقل أهمية من ذي قبل وأضاعت الدول الاستعمارية الكبرى هيبتها في القلوب ورأى كل سياسي أن العصر الذي كانت دول أوروبا تقتسم فيه العالم إلى مناطق نفوذ بينها تفرض فيها سيطرتها واستعمارها وحمايتها وانتدابها قد انقضى وفات فلم تبقَ في قبضتها دفة السياسة العالمية بل أفلتت منها إلى غيرها وقام إثر الحرب العالمية الثانية عملاقان كبيران هما أمريكا ودولة السوفييت وأصبحت الدول الأوروبية بأسرها إما تحت النفوذ السوفياتي المباشر وإما تحت رحمة أمريكا التي تغدق عليهم من مالها الوافر ليعيشوا ويحافظوا على كيانهم ووجودهم وكأن فرنسا لم تعلم بعد أن كل دولة تأخذ من الدنيا على قدر قواها وأن المحافظة على إمبراطورية كبرى ممتدة في أطراف العالم تتطلب من الجيوش والأساطيل والطيران والقوات الاقتصادية والمالية ما يكفي للوقوف أمام أكبر الدول المنافسة وكأن فرنسا لم تعلم أيضًا أنها لا تملك هذه القوة اللازمةوالأعجب أن فرنسا التي كانت طيلة قرون تسير في مقدمة البشرية في بث الآراء الحية الجديدة والدفاع عن حرية الأفراد والمجتمعات أصبحت وكأنها في عزلة عن التيارات الفكرية الكبرى التي تسير بالعالم نحو مصيره فقد تجبرها الظروف أحيانًا على مسايرة غيرها ولكن سرعان ما تتراجع إلى الوراء وتتشبث ببعض المبادئ البالية…وقد انتصرت أثناء الحرب العالمية الثانية وبعدها مبادئ اعتنقتها غالب الشعوب والدول واهتز لها كل مظلوم وكل مغلوب على أمره وكانت أمريكا حاملة لرايتها داعية لها ساعية في تحقيقها فظهرت في الميثاق الأطلنطي الذي جعله الحلفاء دستورًا عالميًّا لجلب الأمم إلى جانبهم والذي إمتاز بإعلان حق كل شعب في إختيار نظام الحكم الذي يريده ثم سجلت مبادئه في ميثاق سان فرانسيسكو الذي أسست بمقتضاه هيئة الأمم المتحدة فالتفتت إليها جميع الأنظار وعُلقت عليها الآمال مع أن الدول الاستعمارية احتاطت لنفسها في ميثاق تلك الهيئة فضيقت ميدانه وجعلته لا يطالبها إلا بتقديم بعض التقارير فيما يتعلق بالشعوب الخاضعة لها ولكن تلك الدول لم تتمكن من التملص من توقيع ذلك الميثاق الذي جعل مهمتها في الأقطار التابعة لها تقتصر على إعدادها لحكم نفسها بنفسها وكانت فرنسا في الواقع لم تغير من سياستها الاستعمارية التقليدية شيئًا ثم إنها وقعت أيضًا على ميثاق حقوق الإنسان وخالفته وخرقته بسرعة عجيبة واعتدت على الحريات الفردية والحريات العامة وقتلت ونكَّلت وسجنت وعذَّبت في أكثر مستعمراتها وخصوصًا في تونس فلم تُقم وزنًا لتلك المواثيق كلها ولم تعترف بها عند التطبيق ولم تحترم توقيعها لها أصلًا وأعظم ظاهرة للعصر الحديث مقت الإستعمار في العالم بأسره واعتباره عبودية ورقًّا والحكم عليه نهائيًّا بالإزالة وقد عزز تلك الظاهرة إرادة الشعوب المغلوبة على أمرها في التخلص منه وإن أدى ذلك بها إلى تضحيات جسيمة وإن أخل بالأمن العالمي وإن اكتسح الإضطراب والحرب قسمًا كبيرًا من المعمورة لأن المستضعفين في الأرض والمقهورين والمظلومين والجائعين رأوا في الإستعمار والتسلط الأجنبي بأنواعه أقوى أركان النظام السائد في بلادهم القائم على الفساد والارتشاء وخدمة مصالح بعض الأشخاص أو الجاليات الأجنبية فتحركت الجماهير الغفيرة التي تعد مئات الملايين بين آسيا وأفريقيا واستيقظت وتفطنت إلى أسباب دائها وعزمت عزمًا كليًّا على جثِّها من أصولها وتقدمت لفك الأغلال من رقبتها والتخلص من النير الأجنبي أولًا ومن ذلك النظام البالي ثانيا ودوى صوت الحرية الهائل في أرجاء الدنيا وتجاوبت أصداؤه من جزر إندونيسيا وسهول الهند إلى جبال الأطلس بالمغرب الأقصى فتقطعت السلاسل وتحررت الشعوب وتكونت دول فتية وفُتحت أمامها أبواب المستقبل على مصراعيها وكأن دولة أوروبا قد دالت فتقلَّص ظلُّها عن بلد بعد بلد وكلما وُلد مولود جديد من تلك الشعوب التي كانت ترزح تحت الاستعمار تعزز به جانب الحرية في العالم وازدادت الدول الاستعمارية ضعفًا وتقهقرت الروح الاستعمارية وأحرزت هكذا غالب أمم الأرض استقلالها الهند وباكستان وبورما وسيلان وإندونيسيا وسوريا ولبنان وليبيا والحبشة وقد حصلت شعوب أخرى على حكمها الذاتي في سيرها نحو استقلالها.

وهل يمكن أن تقف موجة الحرية التي اكتسحت العالم عند حدود تونس أم توهم الفرنسيون أن هذا التيار البشري الجبار سيتعطل أمام ما وضعوه من سدود وضربوه من حصار شديد حول المغرب العربي خاصة وبقية الإمبراطورية الفرنسية عامة

ولم يعلموا أن النطاق الحديدي الذي أرادوا به عزل تونس عن بقية الدنيا لا يمكن أن يوقف حركة شعب ونهضة أمة أرادت إرادة فعالة أن تحيا من جديد حياة العزة والكرامة بل لم يزدها ذلك النطاق المفروض إلا شوقًا إلى الاتصال بالشعوب الشقيقة وإلى الخروج إلى الهواء الطلق الحر فخرق التونسيون الوطنيون السد الفرنسي المنيع من كل جهة وخرجوا بقضيتهم إلى الميدان العالمي ووجدوا جميع تلك القوات الفتيَّة المعادية للاستعمار تناصرهم وتشد أزرهم فقد أصبحت تلك الدول الجديدة تشارك مشاركة حقيقية في سياسة العالم وينبغي هنا ألا ننسى أن عددًا وافرًا من شعوب الدنيا قد ذاق في السابق مرارة الاستعمار وبقيت آثارها في فمه إلى يوم الناس هذا ولذا كانت الولايات المتحدة الأمريكية ودول أمريكا الجنوبية الأرجنتين والبرازيل والشيلي وبوليفيا وغيرها تبغض الاستعمار طبيعةً وجبلَّةً ولذا كان من المتوقع أن تقف تلك الدول التي حصلت على استقلالها في القرن الماضي أو في أوائل هذا القرن لجانب الدول الآسيوية الأفريقية التي رفعت لواء مكافحة الاستعمار فلا غرابة إذن في أن تجد تونس أعظم قوات العالم الأدبية والمادية تعطف عليها وتميل إلى مساعدتها على التخلص من ذلك الاستعمار البغيض فأصبحت المعركة في كنهها بين الماضي والمستقبل ففرنسا وقواها تسعى للمحافظة على النظام القديم البالي وتسعى تونس وأنصارها إلى تحقيق نظام أساسه العدل والحرية والمساواة بين الأمم الصغيرة والكبيرة يضمن للبشرية سلامتها ورفاهيتها ولا يكون الانتصار إلا للمستقبل وقد دُهشت فرنسا لأنها تعيش في برجها العاجي فيما يتعلق بالاستعمار عندما رأت الكتلة الآسيوية الأفريقية تتكون للدفاع عن تونس وزادت دهشتها لما سجلت القضية التونسية في جدول أعمال هيئة الأمم وأخيرًا لم تُحر جوابًا فانسحبت من الجلسة العامة التي أثيرت فيها القضية ولم تحتمل أن تجلس على كرسي الاتهام ولفرط استغرابها وبُعدها عن الواقع العالمي المحسوس قررت حكومتها عدم الإعتراف بهيئة الأمم في هذه القضية وكأنها نسيت أو تناست أنها وقعت ميثاق هيئة الأمم وأن عملها هو تهديم لتلك المنظمة العالمية وقد أصرت على موقفها حتى رئيس وزرائها بيني صرح في كواليس مجلس النواب الفرنسي أن فرنسا لن تقيم وزنًا لأي قرار تتخذه الأمم المتحدة في القضية التونسية وأن فرنسا سترفض رفضًا باتًّا السماح بالدخول إلى تونس لأي لجنة تعينها هيئة الأمم فأصبحت فرنسا تثور وتُبرق وتُرعد ضد كل دولة وكل شعب نصحها بحل الأزمة التونسية حلًّا عادلًا فكانت صحفها تشن الحملات المسمومة ضد شعوب آسيا وأفريقيا وتشكو باكية من موقف الرأي العام الأمريكي من استعمارها لأن القسم الأكبر من الصحف والمجلات الأمريكية كانت واقفة بجانب تونس تدافع عن الحق والعدل وقد طالبت بعضها الحكومية الأمريكية ألا تخون الحرية وألا تعزز الاستعمار في العالم فنشرت مثلًا جريدة واشنطن بوست المعروفة بتأييدها للسياسة الخارجية الأمريكية مقالًا قالت فيه إن قرار الحكومة الأمريكية الخاص بالامتناع عن التصويت عند نظر شكوى تونس ضد فرنسا في مجلس الأمن قرار يدل على الجبن وإن الدبلوماسية الأمريكية تلقت الصفعة التي تستحقها من يد مندوب الباكستان إن اشتراك الولايات المتحدة في منظمة حلف شمال الأطلنطي يجب ألا يكبل حريتنا في ميدان الشئون الخارجيةوإذا كانت الدبلوماسية الأمريكية مهتمة بحماية مصالح دول أوروبا الاستعمارية فما علينا إلا تغيير موقفنا كدولة عالمية وإعادة النظر فيما يتعلق بمصالحنا والسير طبق سياسة خارجية مختلفة تمام الاختلاف عن السياسة التي نسير عليهاوإن أمريكا وإن لم تؤيد في أول أمرها تسجيل القضية التونسية في جدول أعمال الجلسة العامة لهيئة الأمم المنعقدة بباريس ولا مناقشتها في مجلس الأمن بنيويورك إلا أنها نصحت فرنسا المرة تلو المرة بوجوب تغيير سياستها بتونس والبر بوعودها لها ولما رأت تعنت فرنسا سلمت لحكومتها مذكرة رسمية تطالبها بذلك فقامت قيامة فرنسا إذ ذاك واجتمع مجلس وزرائها بعد أن رفض بيني قبول تلك المذكرة أصلًا ونشر بلاغًا باسم الحكومة الفرنسية في ١٩٥٢ جاء فيه أننا لن نقبل أي تدخل في المسائل التي هي في جوهرها من اختصاص السيادة الفرنسيه وتوترت العلاقات بين الولايات المتحدة وفرنسا إذ علم كل واحد أن الحكومة الفرنسية تقصدبالتدخل الأجنبي تدخل أمريكا نفسها ويعتبر الرأي العام الفرنسي كل مناقشة لقضية تونس في هيئة الأمم إنما تقع بإرادة أمريكا أيضًافبدلًا من أن تنظر فرنسا إلى الحقيقة وتعترف بالواقع وتغير سلوكها فتجلب لنفسها العطف والتقدير ألصقت التهم بغيرها ظنًّا منها أن تعنتها وتمسكها باستعمارها ووقوفها لأجله ضد العدو والصديق والخصم والحليف سيضمن لها بقاء إمبراطوريتها كما هي فإذا بالرأي العام العالمي ينقلب ضدها في هذه القضية ويعرفها بالحقائق المرة التي أرادت تجاهلها ولقد أصبحت فرنسا المثال الأول للترميم من عيوب مضحكة وعجزوإن فرنسا كبريطانيا العظمي عرضة لأزمة التناقص ولكن الإنجليز يتبعون سياسة رشيدة يكذبون بها سالوست المؤرخ الروماني الذي يقول إن المحافظة على الإمبراطورية لا تكون إلا بالطرق التي كوَّنتها ويقيمون الدليل على أنه يمكن أن تقام الإمبراطورية على أساس المحبة المتبادلة واحترام التقاليد المتغايرة نرى الفرنسيين يتبعون بتونس سياسة مبناها العنف كأن فرنسا ما زالت دولة قوية عسكريًّا واقتصاديًّا وأدبيًّا وبما أن أساس أعمالها هو الظلم فمن الصعب أن نظن أن الخاتمة ستكون لمصلحتها وأن الفرنسيين يكونون على جانب من الذكاء لو أنهم قلَّدوا الإنجليز المتيقظين لكي يجدوا حلًّا للنزاع القائم مع المكافحين لتحرير تونس ومن الغريب أن الفرنسيين الذين أظهروا تفانيهم في حب الحرية مدة الاحتلال الألماني لبلادهم هم نفس الفرنسيين الذين لا يحترمون ذلك الحب عند غيرهم ولو أن فرنسا تصل إلى فرض شروطها باستخدام جنود اللفيف الأجنبي ولو أنها ترمي في المعركة بجميع القوات التي لديها فتقهر مؤقتًا المقاومة الوطنية التونسية فإن ذلك الحل لا يكون إلا إلى حين لأن ماوقع في تونس ليس بالأمر الخاص بها فحسب بل هو أمر يشبه نشوب الحريق في مزرعة حبوب وأن اللهيب سيلتهم لا محالة جميع ما اسمه إمبراطورية استعمارية أو نصف استعمارية…عبثًا حاولت فرنسا تعطيل سير البشرية فالقوات الطبيعية لا تُرد ونواميس الكون لا تُغلب وتونس تسير مع البشرية في تطورها ولذا رأينا قضيتها تتقدم في الميدان العالمي بخطًى ثابتة وتعزز في كل يوم بقوات جديدة.

 احتلَّت المشكلة التونسيةمكانًا ممتازًا في سياسة حكومات فرنسا المتوالية ولدى الرأي العام الفرنسي وفي مناقشات البرلمان انكبَّ عدد وافر من ساسة فرنسا ومفكريها بالبحث والتحليل على السياسة الفرنسية بتونس فرأوها غامضة مبهمة المعالم مضطربة في سيرها متناقضة في أهدافها حتى قال فيها ميتران إن ضروريات الحرب في الشرق تفرض علينا متناقضات عجيبة إننا نطالب بالمساعدة الأمريكية في الهندولكننا نحتاج إلى تدخل الولايات المتحدة في شمال أفريقيا يبدو أن الوحدة الفرنسية لن تتحمل مثل هذه المتناقضات البالغةوكأن ساسة فرنسا لم يفطنوا بعدُ أن ذلك التناقض الذي سيفضي بالإمبراطورية الفرنسية إلى التفكك والانهيار ناتج عن الصدمات العنيفة والتيارات الجارفة التي تتلقاها من الداخل والخارج وهو ناتج عن تمسك فرنسا بسياسة استعمارية تقليدية لم تُرد تبديلها قائمة على مبدأ أن الاحتلال العسكري لبلاد مستعمرة يجد مبررًا له في أهمية الغنائم التي يجنيها منها.

وللاستعمار الفرنسي بتونس دعامتان الاحتلال العسكري ومعاهدة باردو الناتجة عنه ولذلك جميع الساسة الفرنسيين من ذوي المسئولية وجميع الحكومات تتمسك دومًا بذلك الاحتلال وبتلك المعاهدة أي تتمسك بكنه الاستعمار وجوهره حتى لا تفلت تونس من براثن فرنسا وعندما يتكلمون عن الاستقلال الداخلي فسرعان ما يحترزون ويقولون ضمن معاهدة باردو وهذا ميتران الداعي إلى وجوب إرضاء التونسيين قال يبدو واضحًا أن معاهدة باردو إذ تركت لفرنسا ميدانًا خاصًّا مع احترام الاستقلال الداخلي للبلاد التونسية قد وضعت بذلك قواعد قوية لإقامة نظام فيدرالي يكون العقبة الوحيدة دون الانتشار العظيم الذي تلقاه الأماني الاستقلاليةوكان يجب التمسك باحترام معاهدة باردو وما ترتب عليها من نتائج دبلوماسية وعسكريةأما الاستعماريون المتطرفون وخصوصًا ممثلو الجالية الفرنسية بالمغرب العربي ومن يساعدهم من علماء القانون الذين اشتهرت فرنسا بهم ك لويس ميلو فينكرون إنكارًا باتًّا تامًّا وجود سيادة تونسية كما صرح به الجنرال أومران نائب المستعمرين الفرنسيين بالجزائر في البرلمان الفرنسي قائلًا لم توجد أبدًا سيادة تونسية لا في الواقع ولا شرعًا ولا عقلًامنطق عجيب لا يفهمه إلا المستعمرون فكيف تعاقدت إذن تونس مع فرنسا ومع غير فرنسا قبل الحماية وبعدها بمعاهدات متعددة متنوعة فيجيب الساسة الفرنسيون على ذلك أن فرنسا لم تتعاقد قط مع تونس بل تعاقدت مع باي تونس فقط وهو صاحب المملكةوقد تنازل عن بعض اختصاصاته للدولة الحامية فيبدلون الواقع المحسوس ويخترعون الأباطيل ويتلاعبون بالألفاظ ليبقوا أحرارًا في استثمار البلاد والتحكم في مصيرها معتمدين في الحقيقة على القوة المجردة وحدهاولما ارتفعت الأصوات في العالم بنقدهم والتشهير بهم أجابوا الحكومات الأجنبية والرأي العام العالمي بما أجابوا به من قبل التونسيين أنفسهم وأرادوا أن يحتجوا بما كوَّنوه في البلاد التونسية لوجوب بقائهم بهاوأخذوا يعددون ما عبَّدوه من طرق ومدُّوه من سكك حديدية وما أنشئوه من أدوات عصرية وما شيَّدوه من مدارس ومعاهد للعلم وما أحدثوه من مستشفيات ومستوصفات وما استخرجوه من مناجم ومعادن حتى انقلبت ضجتهم ضدهم وقال لهم السيد ظفر الله خان وزير خارجية باكستان في هيئة الأمم إذا كانت الأرقام التي قدمتموها حقًّا فإن تونس أكثر تقدمًا وأوسع نهضة من باكستان نفسها والباكستان مستقلة فينبغي أن تكون تونس مستقلة قبلها.

ومن البراهين المضحكة التي يلوكونها ويكررونها من غير ملل زيادة عدد السكان في البلاد التونسية ومن الملاحظ أن عدد السكان بتونس لا يزداد في الواقع إلا في الجهات المبرأة من الاستعمار الفرنسي أما في النواحي التي تمكَّن منها ذلك الاستعمار فإن عدد السكان في تناقص أضف إلى ذلك أن نمو السكان في ازدياد أسرع في البلاد التي لم تعرف الفرنسيين واستعمارهم مثل الهند وباكستان ومصر فهو أمر طبيعي خارج عن مؤثرات الدول الغربية كلها.

وقد اتسع التذمر من الحكومة الفرنسية بعد الحرب العالمية الثانية في الرأي العام الفرنسي نفسه على تفريطها في الممتلكات الفرنسية وعدم صيانتها من الضياع فمنهم من طالب بالمحافظة على الكل سيادةً وثروةً ومنهم من يريد تطورًا في الألفاظ وفي بعض المظاهر وإبقاء الجوهروالكل متفقون على الاستعمار ووضح ميتران تلك الفكرة في الكلمات الآتيةإن المسئولين فينا بدلًا من أن يبحثوا عن العناصر الثابتة للقوة في العهد الحديث فيوفروها وبدلًا من أن يعملوا على كسبها والمحافظة عليها اكتفوا بالمظاهر الخيالية للهيبة. لقد كنا في سنة ١٩٣٩م متخلفين بحرب واحدة وفي سنة ١٩٥٣ أصبحنا متخلفين بقارة واحدة.

إن امتلاك الثروة التي تحت الأرض ونشر التعليم وتحديد العملة ومراقبة الصرف واحتلال المناطق الاستراتيجية وتنظيم الجيش والدبلوماسية على أساس جماعي تلك هي المسائل الأصلية التي وقع إهمالها فأصبحت مهددة ولكن يوجد في البلاد التونسية عدد من المراقبين المدنيين أكبر من عددهم سنة ١٩٣٨م كسل في التفكير ثم جرأة لا تنظر للعواقب ذلك ما يمتاز به هذا الضعف الذي يتجلى بمظاهر القوة ببراعة كبيرة حتى يخيَّل لمعظم الفرنسيين أنها القوة بعينها بفرنسا إثر الحرب العالمية الثانية فالرأي العام بها كان يقف في الغالب إلى جانب المظلومين والمقهورين والمستضعفين إذا بلغته جنايات الفرنسيين أنفسهم في المستعمرات فقام المستعمرون من أبنائها سواء كانوا بباريس أو ببقية الإمبراطورية وخصوصًا بالجزائر بعمل واسع النطاق بذلوا فيه أموالًا طائلة للسيطرة على قسم كبير من الصحف والمجلات واستمالة عدد وافر من الساسة الكبار وإيصال معتنقي فكرتهم الاستعمارية إلى زمام الحكم فأثروا هكذا تأثيرًا واسعًا عميقًا بفضل دعاية مغرضة مسمومة دائمة وأصبح عدو التونسيين مارتيونو ديبلا وزيرًا للعدل ودي شوفينييه الوالي العام السابق بمدغشقر الذي قُتل على يديه أكثر من مائة ألف ملغاشي وزيرًا للحرب والجنرال جوان من قواد جيش الأطلنطي الذي انهالت عليه الألقاب والتشريفات فبات مارشالًا وعضوًا في المعهد العلمي وذا كلمة نافذة في السياسة الفرنسية وإذا بالرأي العام الفرنسي يُظهر اهتمامًا بشئون الإمبراطورية ويتعصب في مجموعه للاستعمار مع جهله لحقيقته وواقعه ويرتمي ارتماءً ضد الجزائريين والملغاشيين والفيتناميين والتونسيين مستنصرًا في ظنه لفرنسا منساقًا بغير تفكير لعبارات جوفاء رنانة وقد حلل أحد الساسة الفرنسيين تلك العقلية فقال… إن جانبًا كبيرًا من الرأي العام عندنا لا يزال يتصور التوسع الاستعماري حسب أقدم مظاهره وأكثرها سخافة وإثارة للشعور فالرأي العام يجهل من جهة التغييرات التي حدثت منذ انتهاء الحرب في جميع الأقطار الواقعة تحت الوصاية والتي لا تتمتع بالحكم الذاتي وهو من جهة أخرى يتمسك ببعض النظريات السخيفة فمعلوماته تقتصر على بعض العبارات المثيرة التي تمنعه من التفكير ولا يمكن أن نتصور إلى أي حد عقمت أعمالنا وشلَّتها عبارات مثل «اجتنبوا الفضيحة» ولا توجد ترجمة آسيوية لكلمة الحقيقة وفي أفريقيا لا يحترمون إلا السوط إن ما تتضمنه هذه العبارات من ملاحظات بسيطة تُتخذ مبررًا للمواقف السياسية وحتى لتشييد نظريات تترتب عليها قرارات حكومية.

ولم تنفذ تلك الدعاية الاستعمارية إلى الجماهير الشعبية وحدها بل تأثر بها أيضًا عدد وافر من المفكرين والساسة حتى أصبحوا يرون في كل من يطالب بحقوقه وحقوق بلاده عدوًّا لفرنسا ينبغي الإسراع إلى القضاء عليه ويتوهمون أن الحركات الاستقلالية في البلدان التابعة لفرنسا إنما مصدرها من الخارج والمحرك لها الأجانب وصور لهم خيالهم الشيوعية في كل مكان ثم نسوها ورأوا شبح أمريكا ودولاراتها والجامعة العربية ودعايتها والحركات الآسيوية

 الحياة لا تستحق أن يحياها الإنسان إن لم يُنرها بنور التضحية الكاملة في سبيل مثال أعلى من الحرية والعدالة والأخوة البشرية

الإستعمار في حد ذاته مفسدة بشرية لا يدوم إلا بانحطاط الأخلاق فينزل بالمغلوب إلى حضيض الخنوع والخسة والذل والحيوانية بما يصبه عليه من فقر وجهل ومرض فيدنِّس إنسانيته المقدسة ويُفسد الغالب أيضًا فيولِّد فيه التعصب الأعمى والتفوق العنصري والمطامع والشره والميل إلى الأرباح والمصالح الشخصية ويُميت فيه الضمير وروح العدالة والأخوة البشرية ويقضي على كل اعتلاء فكري فيه مما أكسب الوطنيين التونسيين قوة وألبس كفا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى