مقالات

حاشية المحسوم

حاشية المحسوم - بقلم . المهندس عمر سعيد

حاشية المحسوم

بقلم . المهندس عمر سعيد

إنه الحشر مرة أخرى !
قطعة من جهنم , لكن لا صراط و لا ولاة و لا من يحزنون .
تخيل أنك تُحشر في الأسبوع كل يوم بكل المرات في هذا المكان ؟! في الطريق إلى عملك أو المشفى أو المدرسة أو الكنيسة ! هذا هو المحسوم , مثل الصاخة تحيط بك وأنت وحيد وكريه وضعيف , و تأتيك من كل الجهات على أحرّ من الجمر , لعلك تصبح عموداً من الملح أو الدخان .

لكن الفرج لا يأتي مثلما أتى مخاض الولادة ل ( آيات ) زوجة ابني , أو لعله يأتي و تنتهي رغم خوفها من الفقد كما فقدت ابن بطنها الأول , فلا مشفى ولا ظروف مواتية لتلد ولادةً طبيعية في المخيم مثل كل أمهات العالم , لكن هنا عليك أن تجتاز كل الحواجز حتى تصل الى أقرب مشفى , و تحتار وأنت تقف أمام الحاجز وجنوده , أو تحاول الالتفاف عبر الطرق الوعرة والجانبية لتصل من أقرب بلدة في الضفة إلى أقرب مشفى في القدس , إلا حاجز عيزرا كوهين الذي فاق حاجز قلنديا كونه أكبر وأعنف وأقسى محسوم .

يمعن هذا الــ ( محسوم ) في استمرار عذابات الناس كل صباح , و يقطع أوقاتهم وأعمالهم وأعمارهم وأعراسهم مثل الحسام دون رحمة , فلا يعرف أحدٌ متى يجتاز هذا الحاجز ويصل إلى مُناه .
و لطالما كانت آيات ” كنتي ” مثل أمها , إمرأةً ولّادة , ونحن عائلة صغيرة , وذكورنا قلة , وإناثنا كثيرات , نحبُّ الاطفال ما استطعنا إليهم سبيلاً , وآيات كانت تعشق الأطفال الذين تعمل لأجلهم و ترعاهم في الروضة , رغم أن بطنها يكاد يصل إلى حلقها أو اكثر .

لكن هذه الليلة كان تعبها مضاعفاً , و أحست باقتراب الولادة .
وصل الخبر السار إلى زوجها المطارد , فطار فرحاً و زاد اصراراً على مرافقتها , ولكن كيف السبيل إلى ذلك و الطرق كلها مرصودة و مقطوعة بالحواجز ؟

و مع تزايد أوجاع المخاض تمنت لو أن والدتها المقعدة كانت بجانبها , أو حتى حماتها التي ماتت , لكن لا احد , فقررتُ أن أُرافقها ,( أنا) عن قربٍ عبر الحواجز , و( زوجها) من بعيد عبر الطريق الجانبية .

وحين انتصف النهار , وصلت سيارة الاسعاف التي تحمل آيات إلى حاجز عزرا , أشار أحد الجنود للسيارة بالتوقف , وإلى الجميع بالنزول , و لما بدت آيات ببطنها الكبير , بادرتها ” ايهوديت” ابنة عزرا المجندة الوحيدة على الحاجز, فأرادت أن تفتشها بنفسها .

صرخت ايهوديت : انزلي . وبالكاد استطاعت آيات أن تنزل!
نظرت المجندة طويلاً إليها بينما كان الوقت يمر بطيئاً ثقيلاً متعِباً , فصرخت مرة أخرى : تكدم … ارفع ايديكي … دوري… لفي يمين .. وشمال ,,, و فعلت آيات كل ذلك بصعوبة .

صرخت ايهوديت بتحدي : اكشفي عن بطنك ؟؟! لكن آيات لم تفعل , فرفعت ايهوديت بندقية الــ إم 16 و لوحت بها باتجاه بطنها وكررت : اكشفي عن بطنك . و اقتربت منها ولامست بطنها فوق السرة , و عند السرة , نكزتها بعنف , فشعرت بردة فعل الجنين , لكن آيات هذه المرة لم تتأوه امام ايهوديت التي أرادت ان تسمع صوت صراخ جنينها .

و فجأة , سمع الجميع صوت رشقةٍ من الرصاص قادمة من الطريق الجانبية , فتأهب الجنود وصاروا يطلقون النار بكل الاتجاهات , و تفرق الجميع . و لم اتمكن من الاقتراب من آيات , فكل الجنود هاجموني , حتى أنني شاهدتها ترمي بنفسها قرب الكتلة البيتونية حيث ارتطم ثقل بطنها بالأرض التي كانت حنونةً على بطنها و على جنينها , و لم تنتبه الى جرح بطرف وجهها بالحاجز الذي صار أكثر قسوة و حقداً .

وهناك , أتاها المخاض وهي على طرف المحسوم .

و تزداد آهاتُها , فيزداد صوتُ طلقات الرصاص , و يزداد طلقُها , و فجأةً أحست بسائلٍ دافئ على فخذيها يسيل على الارض .
هنا , لم يتمكن الجنود من تحديد مصدر الرصاص , فازدادوا خوفاً و هلعاً عندما أيقنوا أن الحاجز حسم امره , ولن يحميهم .
و في ثانيتين , أطلّ الجنين إلى الحياة صامتاً أول الامر , كان الجنين بنتاً , مالبثت أن صرخت و بكت , عندما انزلقت بلطفٍ بالغٍ على التراب , كان لها وجهٌ في منتهى النور , و جلدها الرطب محمراً كزهر الدحنون , , لكن على آيات أن تكمل الولادة , فأخذت شظيةً من الشظايا المنتشرة في المكان , و قطعت بها حبلها السري , و نامت من شدة تعبها , بعد أن غفت طفلتها على يدها ,,,,, و قبل شعورها بأول درةٍ من حليبها , غافلتها طلقةٌ قبل لحظاتٍ من نومها الأخير و لم تفرق آيات بين دم رحمها , أو دمها , و ربما دم لحم ابنتها , لكنها شاهدت كيف كان المحسوم خائفاً , و كل من يحتمي به من الجنود مرتعباً و مشوشاً , و رأت بعينيها كيف تحتمي ايهوديت بسواتر الاسمنت و تدفن رأسها في التراب و بارودة ال إم 16 متجهة بفوهتها نحوها.

هنا , اطمأنت آيات الى ابنتها , و دفنت حبلها السري عند كعب الحاجز .
و كان آخر ماسمعته قبل أن تغيب , همهمات ابنتها , و كلمات زوجها : ( صحيح أن الحاجز سيطر على كل شيء حولنا , لكنهم لم يتمكنوا منا , و لن يدفعونا الى موتنا أو حتفنا , أو الى الرحيل) .
بعد يومين , و بعد انتظارٍ شاقٍ و قاتل ..و عندما استلمتُ جثتها … كان المخيم كله ينتظر ..

و كانت مجموعات الرجال و النساء و العجائز و طلاب المدارس و مجاميع أطفال الروضة , و طابور السيارات القديمة و الحديثة , وعربات نقل الماء و الخضار و الزهور ,,, كانت تتنظرها , و بدأت تطوف حول نعش جسدها الصغير , بينما راح ظلها الوارف يزداد اتساعاً وطولاً , و يمتد برهافةٍ خلف الحاجز .
* * * * * * * * * * *
حاشية :المحسوم :
كلمة عبرية تعني حاجز، وقد درج استخدامها على لسان الفلسطينيين في فلسطين في توصيف الحواجز الإسرائيلية مثل بيت ايل وقلنديا وعطارة والكونتينر..

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى