مقالات

حب الكتب بين أن يكون مرضا نفسيا أو هوسا بالقراءة

حب الكتب بين أن يكون مرضا نفسيا أو هوسا بالقراءة

حب الكتب بين أن يكون مرضا نفسيا أو هوسا بالقراءة

 

كتب أشرف ماهر ضلع

أشخاص يكدسونها من دون أن يقرأوها وآخرون يستخدمونها للزينة أو التجارة وبعض يمنعونها عن الزائرين

 

على رغم أن ليس هناك شرط معين لنقول عن شخص معين إنه مهووس بالكتب أو بقراءتها فإن معظم الأشخاص الذين لديهم هذه الخاصية يشتركون في سلسلة من السمات الشخصية والنفسية ومن أهمها الانطواء. ويتمتع الأفراد الذين لديهم حب أكبر من المعتاد للقراءة بدرجة ذكاء أعلى من المتوسط، وبما أن القراءة تعتبر نشاطاً متطلباً نفسياً فإن هؤلاء الأشخاص يطورون أنواعاً من العصابات النفسية.

 

هناك أنواع من الأمراض التي قد تتسبب بها الكتب، لا تدخل فيها الحساسية من الغبار أو انتشار حشرات العث والنمل الأبيض من آكلات الورق وجلود الكتب، بل هي أمراض من صلب هوايات القراءة وشراء الكتب وجمعها وتخزينها وترتيبها، زينة في الصالونات، سواء لعرضها أو لقراءتها، فشراء الكتب وعرضها قد يصبحان مرضاً، ونهم قراءة الكتب أيضاً قد يصبح مرضاً أو يدل على أمراض معينة، وهناك في علوم النفس المتشعبة أسماء للهوس بشراء الكتب لقراءتها، وأسماء للهوس بشراء الكتب وعدم قراءتها.

 

هوس جمع الكتب أو سرقتها

 

هوس جمع الكتب والاحتفاظ بها بات يحسب من بين أحد أعراض اضطرابات الوسواس القهري في علم النفس الحديث، ولم يكن لمثل هذا العارض اسم محدد حتى عام 1866 حين نشر الدكتور جون فيريار الطبيب النفسي البريطاني قصيدة بعنوان “بيبليومانيا” يصف فيها هوسه في تكديس الكتب سواء التي قرأها أم لم يقرأها. في فترة سابقة كان البيبليوغرافي الإنجليزي توماس ديبدين (1776-1847) قد كتب عن هوس جمع الكتب ووصفه بأنه بلاء قاتل وأطلق عليه اسم “مرض الكتاب” الذي ينجو منه بالتأكيد الفقراء الذين لا يملكون ثمن الكتب، والعمال والفلاحون، وهذا من حسن حظهم، برأيه.

 

في التاريخ الحديث كان ستيفن بلومبرغ من ولاية أيوا الأميركية أشهر جامع كتب، ولكنه دين في ما بعد، بسرقة كتب بقيمة 5.3 مليون دولار، وبلغ عددها أكثر من 23 ألف كتاب، وفي عام 1991 أثناء محاكمة بلومبرغ أشار الطبيب النفسي إلى أنه عانى السلوك القهري وأوهام الفصام، وتمظهرت أمراضه في هوسه بالكتب وجمعها. وبعد إطلاق سراح بلومبرغ من السجن لفترة قصيرة، استأنف على الفور سرقة الكتب وجمعها أينما وجدها، مرمية ولو كان يملك منها نسخاً عدة.

 

على رغم أن الهوس بالكتب تم تناوله منذ القرن الـ19، فإنه لم يعتبر اضطراباً نفسياً معترفاً به في “الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات العقلية” التابع للجمعية الأميركية للطب النفسي، بل مجرد نوع من أنواع الهوس وتحديداً الشراء المتعدد للكتاب نفسه، والسرقة المستمرة للكتب، وواحدة من السمات المميزة للهوس بالكتب هي اقتناء أعداد كبيرة من الكتب من دون أن يكون جامعها بحاجة إلى قراءتها بالضرورة، ومن دون أن يكون جمعها يشكل فائدة معينة له

 

 

وأضافت المعاجم النفسية إلى البيبلوفيليا”bibliophilia” أي حب جمع الكتب من أجل قراءتها، وهو عكس البيبلومانيا “bibliomania”أي جمعها من دون قراءتها، أمراضاً أخرى أكثر غرابة تتعلق بالكتب منها البيبليوكلوبتومانيا “bibliokleptomania” أي سرقة الكتب، “bibliophagy” والبيبليوفاجي أي أكل الكتب، والببليوتافيbibliotaphy” أي دفن الكتب، وشروط كل من هذه الأنواع من الهوس تختلف عن الأخرى.

 

التاريخ الغريب لشراء الكتب القهري

 

في القرن الـ19 أصبح جمع الكتب شائعاً بين السادة والنبلاء في بريطانيا بوصفه وسيلة للتشاوف المعرفي أو جمع الأشياء النادرة، ولكن عملية جمع الكتب التي بدأت على سبيل التشاوف أو الاستعراض أو ربما في سبيل المعرفة البحتة داخل طبقة معينة من الأثرياء المتعلمين، تحولت لدى بعضهم إلى هوس أو عادة لا يمكن الإقلاع عنها بسهولة، وكتب فروغنال ديبدين، رجل الدين الإنجليزي والمراجع في القواميس، أن البيبليومانيا أو جنون الكتب، يمتد إلى أكثر من مجرد جمع الكتب، ويتعداها إلى شراء الطبعات الأولى فقط أو الطبعات الأصلية من المخطوطات، أو تعيين اختيار الكتب المطبوعة بالحروف السوداء أو الكتب ذات الطول المعين، كي تتناسب بعضاً مع بعض في الرفوف، أو اختيار نوع من أنواع الجلود الذي تجلد بها، وألوان البطانات الحريرية بداخلها، وفي النهاية تبين أن القس توماس فروغنال ديبدين (1776-1847) كان هو نفسه مهووساً بالجوانب المادية للكتب، وقد أولى اهتماماً شديداً لتفاصيل تجليدها ونوعية الورق وكيفية طبعها ونوعية الحبر، وطالما جمع المساعدات المالية من أجل تجليد أوتجديد الكتب بأفضل الطرق وبأفضل أنواع الجلود والورق والحبر، وكان يتباهى في البلاط وأمام طبقة جامعي الكتب من النبلاء، بما أنجزه من أجل رفد المكتبات الملكية بأفضل أنواع الكتب، من حيث شكلها الخارجي ووضعها المادي، بغض النظر عن محتواها.

 

عمليات جمع الكتب والمخطوطات الأصلية لأجل الزينة أشعلت صراعاً كبيراً بين طبقة النبلاء المثقفين منهم والأثرياء، ففي أوائل القرن الـ19 اعتبر القراء الجديون أن جامعي الكتب من أجل الزينة، يحرمون القراء والعلماء والمثقفين من القراءة عبر اقتنائهم للطبعات الأصلية أو المخطوطات الفريدة، وبينما يجمعونها للزينة فإنهم لن يقرؤوها ولن يسمحوا للآخرين بقراءتها، وكان هذا الخلاف حقيقياً وصحياً في تلك الأوان، ولكن في المرحلة اللاحقة بعد توزيع هذه الكتب على المؤسسات الحكومية أو بيعها في المزادات العلنية، أو نقلها وتوزيعها عبر الوراثة، اكتشف المجتمع العلمي والأدبي أن هؤلاء الأثرياء كانوا قد حافظوا بطريقة ما، ومن دون قصد، على أمهات الكتب التي أفادت المجتمع العلمي والأدبي إفادة شديدة.

 

 

 

في ما بعد تم تصوير جامع الكتب من أجل الزينة أنه مصاب بنوع من الأمراض المعادية للمجتمع، من خلال عدم الإسهام في الصالح العام ومشاركة ثرواته المطبوعة. وبعد ذلك، حين اشتهر صيت علم النفس الجديد القائم على العصاب النفسي الشخصي، بات يتهم جامعو الكتب من أجل الزينة بأنهم مرضى نفسيون، وصارت لهم أسماء تميز بعضهم عن بعض.

 

بعد أواسط القرن الـ20 بات جمع الكتب القديمة والنادرة نوعاً من الأعمال التي يقوم بها هواة وأشخاص متخصصون، فيعرفون المخطوطة القديمة والثمينة من تلك المغشوشة، ويتاجرون بالكتاب بكونه قطعة فنية نادرة، عدا عن أهمية محتواه، وصارت بعض المخطوطات ذات أسعار عالية جداً، سواء بسبب ندرة الكتاب أو المخطوطة أو لأنها حاجة ضرورية للباحثين والدارسين، لتأكيد ما ورد في مخطوطات أخرى، أو لأنها تكمل سلسلة من مخطوطات معينة، يكون نقصان مجلد من مجلداتها، خسارة كبيرة، مما يرفع ثمن المجلد الناقص إلى أسعار خيالية، وعند إيجاد هذا المجلد النادر صارت المكتبات العامة الكبيرة والمعروفة تتسابق على شرائه، بعد جمع أموال الدعم، ثم تعرض النسخات منه في إطار زجاجي محمي، لتدور على المتاحف والمكتبات العامة في أهم العواصم.

 

الجمع بوصفه تعويضاً عن خسارة طفولية

 

كتب الدكتور بيتر سوبكوفسكي عام 2006 في عدد من “المجلة الدولية للتحليل النفسي” أن الرغبة في جمع الكتب هي ظاهرة ذات جذور أنثروبولوجية واجتماعية وديناميكية نفسية فردية، ووجد أن الاهتمام بجمع الكتب لدى الرجال أكثر منه لدى النساء، ووصف هذا الإدمان بأنه وسواس يتعامل مع صدمة خسارة أولية وقعت في طفولة المدمن، وقد عوض عنها بعملية جمع الكتب التي لا تنتهي

 

 

 

إلا أن الهوس بجمع الكتب يمكن أن يكون مجرد تمديد للذات في مجالات اكتساب المعرفة، أو توسيع نطاق الذات مثل الحفاظ على التاريخ وخلق شعور بالاستمرارية. وهناك الاستثمار المالي ثم الإدمان، وهذا كله ينطلق من الشغف بالكتب، أما في التفسير النفسي الفرويدي فإن شغف الجمع يمكنه أن يتمثل بوصفه مظهراً من مظاهر النبضات الشرجية المثيرة.

 

صارت كل التسميات المذكورة آنفاً حول جمع الكتب تتناول الجمع من دون حاجة إلى القراءة، وهو ما يسميه اليابانيون “تسوندوكو”، أما الهدف من ذلك فمختلف من شخص إلى آخر، فبعض الأشخاص يعتقدون أن المكتبة الكبيرة تبديه مثقفاً من دون أن يكون كذلك فعلياً، ولكن هذا في الدرجة الأولى من المرض، إذ إن هناك مهووسين بمكتباتهم المنزلية بطريقة أكبر من أن تكون تزيينية، إذ لا يسمحون للزوار بالاطلاع عليها أو يقومون بحمايتها بشتى الطرق الممكنة، وكأنها معرضة للسرقة في أي وقت، وعند هذه الحال يتعدى الأمر كونه أمراً تشاوفياً ثقافوياً، إلى أن يصبح مرضياً أو هوسياً.

 

هوس القراءة بلا جمع

 

هوس جمع الكتب قد يكون موصولاً بقراءتها، إلا أن هوس القراءة لا يعني بالضرورة جمعها، فهناك قراء كثر يهدون كتبهم إلى آخرين أو يهدون مكتباتهم إلى مكتبات أكبر، بمجرد أن يستنفدوا الحاجة إليها، وعلى رغم أن ليس هناك شرط معين لنقول عن شخص معين إنه مهووس بقراءة الكتب فإن معظم الأشخاص الذين لديهم هذه الخاصية يشتركون في سلسلة من السمات الشخصية والنفسية، ومن أهمها الانطواء، ويتمتع الأفراد الذين لديهم حب أكبر من المعتاد للقراءة بدرجة ذكاء أعلى من المتوسط، وبما أن القراءة تعتبر نشاطاً متطلباً نفسياً، فإن هؤلاء الأشخاص يطورون اهتماماً كبيراً بهذه الهواية، قد يؤدي بهم إلى الإصابة بأنواع من تصنيفات العصابات النفسية.

اقرأ المزيد

 

مواقع الكتب الإلكترونية تجذب القراء وتسبق الإعلام التقليدي

ما هي الكتب التي ألهمت بعض المؤلفين؟

 

وتشير الدراسات إلى أن هناك استعدادات وراثية وجينية لم تحدد بعد للاستمتاع بالقراءة، وإظهار اهتمام غير عادي بهذا النشاط.

 

ووفقاً للاستطلاعات، يميل البالغون الأذكياء والناجحون إلى أن يكونوا قراء متعطشين، ففي مسح أجراه مركز بيو للأبحاث في 2020 فقد قرأ 67 في المئة من البالغين في الولايات المتحدة ما يزيد على 12 كتاباً سنوياً أي بمعدل كتاب واحد في الأقل في الشهر، ويقرأ عدد من الرؤساء التنفيذيين وقادة العالم ورجال الأعمال الناجحين والشخصيات البارزة في الصناعة والمؤلفين البارزين، ما يزيد على هذا المعدل، على سبيل المثال، يقرأ بيل غيتس مؤسس شركة مايكروسوفت أكثر من أربعة أضعاف عدد الكتب التي يقرؤها البالغون الأميركيون العاديون، أي حوالى 50 كتاباً كل عام، وفقاً لمقابلة أجرتها معه صحيفة “نيويورك تايمز”.

 

وكان رئيس وزراء بريطانيا الراحل السير ونستون تشرشل، الحائز جائزة نوبل في الأدب عام 1953 يقرأ الكتب المنشورة في زمنه بصورة دورية، بما في ذلك الخيال العلمي والأدب الكلاسيكي والتاريخ، وبقي كذلك حتى نهاية حياته.

 

واطلع إيلون ماسك على معلومات عن الصواريخ من خلال قراءة الكتب كما اعترف في مقابلات عدة، ويقول إنه كان قد قرأ موسوعة بريتانيكا بأكملها في سن التاسعة من عمره، وقرأ الخيال العلمي لأكثر من 10 ساعات في اليوم عندما كان طفلاً. ويقال إن الملياردير الأميركي وارن بافيت يقضي معظم اليوم في القراءة والتفكير، ويقرأ ما يقدر بخمس إلى ست ساعات يومياً.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى