شعر و ادب

حيـن مَــرَّ الأسـود

حيـن مَــرَّ الأسـود

حيـن مَــرَّ الأسـود

بقلم . فـدوى برِّية

قَبل بضعةِ أشهرٍ من مُرورها بملامحه، وقفت وحيدةً على قارعة الطريق الخالي من المارة إلا هـو، وحيدةً تحاول التشبث بظلِ أحدٍ يعبر خلـوة ذلك الطـريق ليساعدها في إنـزال الثلاجة لمنزلها الذي كاد شبه منزلٍ، غـارقة في أفكارها المتعبة من شتاء أيامها، حتى استوقفها وهو الذي لا يدري أنه استوقف قلبها، كيف يمكن أن نتورط بعابـرٍ، ونحـن لا نـدري ما الذي يُخفيـه القدر؟
استوقفها قائـلاً: سأساعد الرجل.
تراجعت خطـوات، في حين تتساءل في نفسها عن عُمـره الذي بدا في مقتبله، تُراقب طول قامته، تغوص عيناها في سواد قميصه متسائلة:
لِمَ الأسود بالذات من ارتمى على جسدك الأبيض، أكان بِك ثقلٌ طغـى حتى على وردية ملابسك، أم أن اللون الأسود الذي طالما وَرَّطَ العديدين في شِباك الحب، جاء اليوم ينقضُ على عاتقي؟!
في حين أودعت الشمس شيئاً من ضفائرها بخصلاته المتروكة على سجيتها، يعتلي وجهه ضياء يوسف النبي، مشيته فيها تَعَبٌ بعد عمل يومٍ طويل.
أنـزلا الثلاجـة، حاولا إدخالها من باب المبنى حتى استوقفهما صِغر عرض الباب، رغم أنها لم تكن بذلك الحجم من الضخامة، فما تيسر معها من مالٍ بعدما باعت ما تبقى من مصاغها الذهبي، كالتائهة تتلفت محملقةً في الواجهات الزجاجية الممتلئة بالأجهزة الكهربائية بحثاً عن أرخص الأسعار.
باءت محاولاته بالفشل، ما لبث أن استعان بحـداد الحي لفتح باب المنزل المهترئ.
بدا مُتعباً كأنه أنهى معركةً أخرى بعد اثنين وسبعين عاماً مضـت في شـوقٍ وإصـرار، ومعـارك لأرض البرتقال.

أومأ برأسه مع ابتسامةٍ خفيفة رُسِمَتْ على وجهه، شاكراً والدتها على فنجان القهوة الذي جلس يرتشفه في مدخل المبنى.
بعد وهلة صمتٍ قال متسائلاً:
منذ متى تقطنون في هذا المنزل؟ لماذا لم تحاولـوا البحث عن منزلٍ آخر؟!!
ردت بِحزن يعتلي صوتها:
استأجرنا هذا المنزل منذ أكثر من ثلاث سنوات، ولم نحظَ للآن بمنزلٍ أفضل، فالأسعار فوق قدرتنا، مررنا بسنوات عجاف ثقيلة على القلب، غربلت المزيفين وأسقطت الأقنعة.
قال والانزعاج يُغطـي ملامح وجهه:
سوف أبحث لكم عن منزلٍ آخـر من صباح الغد، لا تجزعي.
سرَح قليلاً مع أفكاره، ثم تابع حديثه بعدما شكرته:
قبل يومين عُدُت من سفرِ ثمان سنوات من أجل العيش بحياة كريمة، تركت دراستي وتوجهت للبحث عن عمل، وها أنا اليوم خرجت مُجدِدَاً البحـث، أنهكتنا الحرب، وجعلتنا متسولين ذليلين لأناس لم نكن نتوقع يوماً العمل معهم.
جعلت تُكرر النظر إليه خِلسةً وهو يتابع حديثه:
أسكن المبنى المقابل، وجاهزٌ لتقديم المساعدة متى شئتم.

غَرُبَتْ الشمس لتصبغ السماء بلونها القرمزي، ويحل المساء بنجومه وسكونه، وهما ما زالا منهمكين بالحديث عن متاعب الحياة اليومية، عابرون ينتظرون أول محطة يفرغون القليل من متاعهم ثرثرةً، ويستقلون قطاراً جديداً بحثاً عمن يقيهم شرَّ الأوقات.
في تلك الأثناء فتح جارها في الطابق العلوي باب المبنى، رمى عليهما السلام، وعيناه ترمقهما بنظرات الريبة، أنهى حديثه، وهمَّ بالانصراف، واعداً اياها بلقاء قريب.
شكرته مودعـةً بالدعـاء.
دخلت المنزل لتُنهي ما تبقى من عمل، تناولت العشاء مع عائلتها، دخلت الغرفة تقصد النوم بعد يوم مُتعب، إلا أن جمال ملامحه لم يفارق مخيلتها، شعرت كأنها وجدت فيه من تُعلق عليه بؤسها الأنثوي وأمانيها القادمة.

تتالت الأيام، انساقت وراء قلبها، أخذ يتصل فيها بين الحيـن والآخر، ليؤكد لها أنه ما زال يبحث عن منزلٍ مريح، ويطمئن عن حالها وأهلها.
كيف لمحادثةٍ بسيطة أن تزرع هذا الحشد الهائل من المشاعر في قلبها لمجـرد لقـاءٍ عـابــر؟!!
وجوده لجانبها ملأ دنياها شوقاً وحباً، بعد أن صمدت أمام أمواج الحياة المتعِبَة، وسقطت الهموم من حياتها كأوراق الخريف دون رُجعة.
لم يعد شيء يُعكر راحة بالها بعد تَعب سنينٍ في مواجهة المصاعب والضغوط.
كانت تدفع بنفسها إلى المخاطر لتصل إلى ما تريد، فكان حضوره كجسرٍ بينها وبين الأمل لا بـد أن تَعبره.
لفهما الحب من كل الاتجاهات، مضت الأيام سريعة، إلى أن جاء موعد سفره، ذاب القلب ألماً، والعقل تاه بين دروب الذكريات الجميلة، والروح تتألم كأنها تحتضر في أنفاسها الأخيرة.
وقفت متسائلة: هل حقاً كان بيننا كُل ذلك القُرب؟!!

بعد سفره، كانَ يومها عبارةً عن بُكاءٍ وصراخٍ صامتٍ تتساءل: هل كان حلماً؟
طـواها اليأس من جديد، انغمر قلبها بالأسى وانطفأ، وحيدة تصارع أمواج الحياة الثائرة، تستيقظ لتطلبه على الهاتف بعد منتصف الليل، كانت على استعـداد أن تضحي بكل شيء في سبيل عودته لها، ولا تملك من أمرها شيئاً إلا الدعاء، متسائلة: يا دقة قلبي الأولى والأخيرة إِنْ لَمْ تَكُنْ لي فَمَنْ لِيْ؟!

أخذت تتواصل معه، وتعاود ذكرياتها، وتصلي من أجل عودته ليعود كل شيء لطبيعته.
مع مرور الأيام ورغم بُعد المسافات، إلا أنها لم تكن عائقاً بينها وبينه، والأيام الباردة التي عاشتها وحيدة أدفأها بصوته.
لم يُنسهِ البعد من تربعت على عـرش قلبه، فظل على العهد، وظلت رائحتها تعطر أيام بُعدهِ عنها، وظل حبل الود متواصلاً بينهما.

بعد مرور حوالي السنة، وذات صباح ربيعي، في لحظة لم تتوقعها، استيقظت على صوتهِ يخترق نافذة غرفتها المغلقة قائلاً: وفيت بوعـدي.
فتحت النافذة مسرعةً بابتسامةِ أمـل وتفاؤل ملأت أعماقها مرحبةً بعودته:
انتظرتك
بعد تعـبٍ ومـرارة أيام، زُفَـتْ إليه، فإصـرارها في البحث عن يَومٍ وليـد، كان لا بـد له من خاتمة سعيدة تليـق بإصرارها وإن طـال الطـريق.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى