مقالات

سيدة الأرض والحرية والسلام بقلم د. نجلاء الخضراء

سيدة الأرض والحرية والسلام بقلم د. نجلاء الخضراء

سيدة الأرض والحرية والسلام

 

بقلم د. نجلاء الخضراء

 

شكلت سوريا منذ أقدم العصور قلب العروبة النابض بتنوع نسيجها الشعبي وقومياتها فكان سر استمرار حياتها هو انتظام النبضات ليتساوى الضخ إلى سائر الأعضاء، تكمن قوة الجسد السوري بالتناغم والتكامل والتناسق بين مختلف القوميات والمذاهب والأديان والطوائف التي شكلت النسيج السوري وأعطته ألوانه البديعة وقوته في مقاومة أعدائه فباءت محاولاتهم في الفصل والالغاء والاحتلال بالفشل، وبقيت سوريا حرة موحدة ووطنا رحبا لجميع السوريين بقوة وحدتهم وألق اختلافهم وجمال تنوعهم

يحمل اسم سوريا تاريخا متجذرا طويلا وتتعدد الأراء حول أصوله فيرى البعض أنه اسم كلداني سوبرتو) أو آشوري (أسورية) أو (آثوريا) لكن الكثير من الباحثين يرجعونه إلى السريانية بمعنى الأرض السيدة من كلمة (سريت) السريانية والتي تعني سيدة وقد سيمي سكانها قديما سريانا أو سوريين

ذكر اسم سوريا لأول مرة في الأدب الأوغاريتي في النصف الثاني من الألف الثاني قبل الميلاد باسم (سيريون) وتعني درع الصدر، وهو شعر مكتوب للإلاه بعل والإلهة عناة على نقش فينيقي عثر عليه في مملكة أوغاريت

وفي العهد اليوناني استخدم المؤرخ اليوناني الشهير هيرودت في القرن الثامن قبل الميلاد اسم سوريا نسبة للأشوريين أو بلاد أشور، للدلالة على المنطقة الممتدة بين البحر المتوسط غربا والبادية والفرات شرقا وبين جبال طوروس شمالا وسيناء جنوبا.

تقع سورية في منطقة جغرافية استراتيجية بين القارات الثلاث آسيا وأفريقيا وأوروبا ماجعلها موطنا للحضارات المختلفة فسجلت شريط تاريخي يمتد لآلاف السنين تجمعت فيها أقدم المجتمعات وأسست لنماذج حضارية متنوعة كان لها إنجازات كبيرة في مجالات متعددة، فقد ساعد الموقع الجغرافي السوري على التبادل الثقافي والحضاري بين مختلف الشعوب وكان هذا الموقع سببا في قيام وتتطور العديد من الحضارات وقاعدة قوية لنمو المجتمعات الزراعية، إضافة الى تنوع المناخات والتضاريس. فنجد السهول الخصبة والجبال الوعرة والسواحل الممتدة، فكانت السهول مناطق مثالية للاستقرار والسواحل مناطق للحصول على الثروة السمكية، وأدت إمكانية الوصول إلى مصادر المياه تأثيرا كبيرا على تحريك القوافل لذا يمكن القول ان الجغرافيا لم تكن مجرد خلفية للأحداث التاريخية السورية بل كانت عنصرا فاعلا في تشكيل مسيرته . اذ شكل هذا الموقع ملتقى للطرق العالمية فعبر أراضيها كان يمر طريق الحرير القادم من أقاصي الصين لتكون دورا اروبس المحطة الأولى ثم تدمر وحمص إلى أن يصل إلى مرافئ البحر المتوسط.

تركت الحضارات القديمة التي أقامت على أرض سوريا منذ الألفية الرابعة قبل الميلاد أثرا تاريخيا عميقا ساهم في تشكيل هوية الشعب السوري ما يجعل له علامة فارقة في التاريخ الإنساني.

حملت الهجرات المتتالية للسكان الأصليين الذين جاؤا تباعا من جنوب الجزيرة العربية وتوطنوا على امتداد الأرض السورية من أقصى الجزيرة وبين النهرين حتى جنوب فلسطين وأرض سيناء الطابع العربي الأصيل، فعرفوا مرة بالأكاديين ومرة بالعموريين في الألف الثالثة قبل الميلاد ومرة بالكنعانيين ومرة بالفنيقيين، فمن سوريا انطلقت اللغة الفنيقية التي بقيت طويلا لغة التجارة والدبلوماسية في العالم القديم. وسموا بالآراميينن وهم سكان المناطق العليا وأخرى بالغساسنة والأنباط وهم آخر المهاجرين . شكلت تلك الحضارات تنوعا غنيا من الأديان والمعتقدات التي شكلت جزءا من حياتهم الاجتماعية وارتبطت ارتباطا وثيقا بالأرض إذ كان ينظر إلى الآلهة كقوى تمثل جوانب مختلفة من الوجود كالزراعة والحرب والحمل والولادة فمثلا كان يعتقد أن الاله بعل هو المسؤول عن الخصوبة والأمطار كما كانت عبادة الالهة عشتار تعكس قيم الحب والحرب ما دل على الأهمية المزدوجة للجانب الروحي والعملي في الإنسانية.

وتعد الحروب في العصور القديمة عنصرا حاسما في تشكيل تركيبة المجتمع السوري القديم وتوجهاته المتعددة فقد شهدت الأرض السورية مجموعة من الحروب والنزاعات من شعوب خارجية كالهكسوس والبابليين والآشوريين نتج عنها تغيرا في مفاهيم الهوية بسبب تغير في التركيبة الاجتماعية للسكان الأصليين إضافة إلى التداخلات الثقافية الجديدة والدينية التي ساهمت في تشكيل قيم المجتمع وفلسفات الحياة ما أثر بدوره على أنظمة القانون والسياسة وانعكس بشكل واضح على تطور المجتمعات عبر الزمن، فاستطاع الصمود أمام الزحوف البشرية التي غزت أرضه من حثيين وفرس ويونان ورومان، وفي العهود الهنلستية والبيزنطية كانت سوريا أهم مراكز الاشعاع والعطاء وكان من أباطرة روما سوريين من حمص وشهبا.

وكانت أرض سوريا مهدا للديانة المسيحية ونشر السلام ومنطلقا من منطلقاتها فارتبطت بذكرياتها وتقاليدها ومقدساتها، فمن دمشق ومن طريقها المستقيم بدأ بولس الرسول رحلة الايمان ولا تزال إلى اليوم لغة السيد المسيح الأرامية لغة لسان أهل معلولا وجبعدين. وفي القرن الأول كانت أنطاكيا مهد المجتمع المسيحي. وحين أتى الفتح الإسلامي العربي عام 626 م أكد هوية سورية العربية وأعاد إلى الأرض جوهرها وأصالتها، فأصبحت سوريا بمثابة القلب النابض ومركز الاشعاع الرئيس للحضارة الإسلامية بعد أن أصبحت عاصمة الدولة الأموية. وما يزال الشعب السوري يحتفظ إلى اليوم بطابعه الأصيل ونهج فكره وطراز حياته ولغة شعبه.

فكانت سورية خلاصة تاريخ العالم عاصرت أكثر من ثمانية آلاف زخما حضاريا وتواجد إنسانيا عميقا، فما من حضارة كبرى إلا وتفاعلت على أرضها فشكلت أرضها محطة تراكم حقيقي لهذه الملاحم وموطنا لتوالد الديانات وتشكلها وانتشارها

كل شبر من هذه الأرض ملئ بأحداث التاريخ والمعالم والملاحم التاريخية الخالدة ويروي قصص ماري وايبلا وأوغاريت وعمريت وأفاميا ودوراأروبس وتدمر وبصرى وشهبا والرصافة والرقة إضافة إلى دمشق وحمص وحماة وحلب أقدم المدن المأهولة بالسكان.

وفي قرون لاحقة تأثر المجتمع السوري بالاحتلال العثماني الذي استمر عدة قرون قبل أن ينال الشعب استقلاله، أثر هذا الاحتلال وحروبه على المجتمع السوري وأفرزت هذه الأزمات مشهدا معقدا من الهجرات والنزوح ما أسهم في تشكل مجتمعات جديدة داخل وخارج البلاد، واستمر السوريون بالتفاعل والتكيف مع المتغيرات الجديدة بما يضمن لهم استمرار هويتهم الثقافية والتراثية وعندما دخلت سورية بفترة الاحتلال الفرنسي عام 1920شهد المجتمع السوري تغيرات جذرية في كافة الأصعدة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية. فقد حمل الاحتلال بين طياته نظاما سياسيا جديدا يعتمد على تقسيم البلاد إلى مناطق نفوذ وانشاء نظام تحكم مركزي يهدف إلى طمس الهوية الوطنية السورية وتعزيز الهويات الطائفية.

كان المجتمع السوري واعيا فقد شهدت تلك الفترة تصاعدا كبيرا في المشاعر الوطنية تجسدت في العديد من الحركات التي سعت للتحرر من السيطرة الفرنسية، من أبرز هذه الحركات كانت الثورة السورية الكبرى عام 1925م التي تمثلت بانتفاضة شعبية واسعة أسفرت عن قتل آلاف من السكان واعتقال الآلاف، كان لهذه الثورة تأثيرا عميقا على الوعي الوطني حيث تضافرت فيها جهود مختلف الفئات الاجتماعية من فلاحيين ومثقفيين وعسكريين ما أدى إلى توحيد الشعب السوري ضد الاحتلال . عكس التفاعل الشعبي جانبا بارزا من خصائص المجتمع السوري ورسم ملامح مستقبل حمل الكثير من التحديات، فكانت الحياة الاجتماعية السورية غنية بالعادات والتقاليد التي تعكس تاريخها المتميز وثقافتها المتنوعة.

إلا أن الحروب والنزاعات المستمرة شكلت تحديات جسيمة أثرت على المجتمع فعندما قامت الحرب في 2011 بتدمير الهياكل الاجتماعية خلقت تغيرات جذرية في المجتمع فتزايدت الظواهر الاجتماعية الجديدة نتيجة الصراع المستمر الذي تسبب في نزوح عدد كبير من السكان من منازلهم بحثا عن الأمان ما نتج عنه ظهور مجتمعات جديدة في مناطق النزوح ساهمت في تشكيل الهوية الثقافية والاجتماعية حيث وجد النازحون أنفسهم في تفاعل مع مجتمعات أخرى مما ساهم بدوره في خلق مساحات جديدة للتواصل والاندماج بالرغم من الازمات النفسية الناتجة عن الفقد والمعاناة، إلا أن الشعب السوري أثبت مرونته وقدرته على التكيف مع المتغيرات والاحتفاظ بتقاليده وعاداته التي تعزز استمرار هويته والحفاظ على تراثه الثقافي، خاصة عندما قامت الجاليات السورية في العديد من المدن الكبرى حول العالم بانشاء مؤسسات ومراكز ثقافية تهدف إلى الحفاظ على التراث الثقافي والفني لضمان عدم انقطاع الروابط الثقافية مع الوطن والمساهمة في تعزيز الانتماء الثقافي للأجيال الجديدة.

ساهم الاندماج والتفاعل بين مفردات الشعب السوري في بناء تراث ثقافي غني ومتنوع جعل من سورية بوتقة تنصهر فيها الأفكار والفنون ما يعكس عراقة الشعب السوري وانفتاحه وتميزه بعدد من المميزات وهي:

يتكون المجتمع السوري من مجموعة مكونات رئيسية تشمل العرب وهم الغالبية في المجتمع والأكراد الذين يملكون تراثا غنيا يعكس تاريخهم وهويتهم والسريان ولهم تاريخ يمتد لآلاف السنين والدروز وهم مكونا فريدا من نوعه يتميزون بمعتقداتهم وأسلوب حياتهم وأقليات أخرى كالأرمن والأشوريين وكذلك الفلسطينيين اللاجئين منذ عام النكبة 1948م والذين نقلوا عاداتهم وتقاليدهم وهي لا تختلف كثيرا عن عادات السوريين بسبب وحدة المنطقة والتاريخ واللغة، ولا يمكن اغفال الوجود اليهودي الذي انحسر في العقود الأخيرة بسبب الهجرة إلى فلسطين. يدل هذا التنوع على غنى الثقافة السورية ويعزز الفهم المتبادل بين مختلف المجتمعات ما يسهم في بقاء هذا المجتمع حيويا أصيلا ومتجددا

بنى السوريون مدنهم وأحياءهم على المحبة والسلام وزينوا اختلافهم وتنوعهم بالاحترام والود المتبادل وجعلوا من اختلاف لغاتهم ولهجاتهم نغمات موسيقية تشي بأصولهم وخلقوا من تنوع دياناتهم وثقافاتهم معان سامية للتآخي. فعند الاختلاف أو حدوث مشكلة يجتمع كبار الحي لحل الخلاف دون ترك مجالا للقطيعة بين أفراد المجتمع مهما كان حجم الخلاف.

تعدت العلاقات الانسانية حدود العادات فالمسيحي يهنئ المسلم برمضان وأعياده وعودة الحجيج من فريضة الحج والمسلم يهنئ ويشارك المسيحي بأعياده، وبهذا رسخت المدن السورية قيم التعايش المشترك والتسامح

يعكس تنوع اللغات واللهجات في المجتمع السوري التراث الثقافي والتاريخ العريق الذي تتمتع به البلاد وهي أسلوب تواصل ووسيلة لنقل التراث اللامادي، فنراها تجسد حياة سكان منطقة معينة وطبيعة علاقاتهم مع محيطهم فيعبر أدبهم عن تجاربهم وأحاسيسهم من خلال الشعر والنثر والقصص والأمثال الشعبية والفنون المسرحية التي تكتب باللهجات أو اللغات المحلية.

الشعب السوري محب للفنون يتفنن في مأكله وملبسه ويعشق التراث ويتغنى ويتفاخر به ويقدس العمل ويعده ركنا من أركان العبادة لهذا فهو يتقن ما يصنع، ويحافظ على العديد من الحرف اليدوية القديمة التي يعدها تراثا وجزءا من هويته

يساعد الشعب السوري بعضه البعض ويعد مساعدة الغير واجب انساني وأحلاقي ويتكفل المقتدر منه بمساعدة المحتاج بدافع الإحساس، ويفتح بيته لاستقبال واغاثة الملهوف، ويحب الحرية ويكره الاستعمار والاستبداد.

يتصف السوريون بالعروبة النقية والإخلاص للشعب العربي فلم يكن يوما غريبا عن أمته حتى في أشد محنتها ظل وفيا لأمته وقضاياه متمسكا بعروبته فسوريا كانت وما زالت قلب العروبة النابض لأنها سورية التاريخ والعدالة وسيف العرب وترسهم منها انطلقت مواكب المجد لتعبر الفيافي والبحار وحطت في الأندلس حيث شواهد الحضارة ماثلة أمام العالم حتى اليوم.

ان الدعوة لتشافي سورية من جرحها الغائر الذي يحتاج التعافي منه ابصار الذات الوطنية قبل القومية في مرآة متعددة الانعكاسات، لتتعرف على وجوهها المختلفة وفهمه فهما عميقا والايمان بشعبها ايمانا ينطلق من تعزيز الوحدة الوطنية وإعادة بناء الثقة بين الفئات المختلفة من أجل بناء مستقبل مشترك، وأن يعي الشعب السوري أن قوته في تنوعه وتنوع تراثه والحفاظ عليه والتمسك به والاعتزاز بتاريخه، فالتراث قيمة كبيرة تتجلى في الموروث الثقافي وذاكرة الأوطان وهوية المجتمعات، لأن هذه الكنوز الثمينة نتاج عقول وجهود بشرية مستمرة وتواصل انساني شكل جسرا للتواصل والتقارب بين مختلف الشعوب والثقافات.

ومنح الأولوية للتفكير بالمصلحة العامة للشعب والوطن والعمل وفق أساليب فعالة تجنبا لاندلاع النزاعات مجددا وإيجاد مؤسسات اجتماعية مهمتها إشاعة ثقافة التعايش السلمي والعمل على إعادة الثقة بين مكونات الشعب السوري وممارسة حقوقها بأجواء من الحرية والاحترام المتبادل.

ان الشعب السوري من أعرق الشعوب وأعظمها حضارة وأكثرها بركة يمتلك أسباب البقاء والازدهار والعطاء، وهو محب للحياة مقاوم لمحاولات محو هويته واحتلال أرضه التي دكتها أكبر الجيوش وأقواها وطمعت بها كل الأمبراطوريات، فخرجت تجر هزيمتها بسبب عدم فهمهم لطبيعة نسيجها الاجتماعي وعمقه الجغرافي فتقهقروا أمام شعب احتفظ بهويته وتكلم بلغة أرضه وتميز بثقافته وسيتميز بها أبد الدهر. لذا فهو قادر اليوم على نفض غبار تعبه ومعالجة أمراضه وتجاوز القهر واللجوء وبناء حضارته وفق خصائص اجتماعية وعرقية ودينية تعمل على تحريك عوامل الحياة فيه ليبقى هو ويفنى الجلاد.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى