عرب وعالم

في بكين.. ولادة نظام عالمي جديد وترامب يغرد خارج السرب

في بكين.. ولادة نظام عالمي جديد وترامب يغرد خارج السرب

 

تحليل جيوسياسي استراتيجي لـ :نبيل أبوالياسين

 

في لحظة تاريخية فارقة، اجتمعت في بكين ثلاثة من أبرز قادة العالم، في مشهد لم يكد يمر مرور الكرام على الساحة الدولية. وبينما كانت الأضواء كلها مسلّطة على العرض العسكري الضخم الذي أقامته الصين بمناسبة ذكرى نهاية الحرب العالمية الثانية، كانت عيون العالم تترقّب ردود الفعل، خاصة من واشنطن. وفي خضم هذا الحدث الذي بدا وكأنه تأكيد على مكانة الصين المتنامية، خرج الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب بتصريحات مثيرة للجدل، محولاً ما يمكن اعتباره استعراضاً للقوة إلى اتهام صريح بالتآمر ضد الولايات المتحدة، في محاولة واضحة لتغطية حرج الموقف الأمريكي.

 

 

ترامب يطلق قنابل اتهام: هل هو تآمر أم قلق؟

 

في خطوة لم تكن مفاجئة لمن يتابعون أسلوب ترامب، قام الرئيس الجمهوري بصب الزيت على النار، متّهماً الرئيس الصيني شي جينبينغ بالتآمر مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون. جاء هذا الاتهام الصادم عبر منشور على منصته “تروث سوشال”، حيث تمنى للصين “يوماً رائعاً”، قبل أن يضيف بلهجة ساخرة أن يوجهوا “أطيب تحياته” للقائدين الروسي والكوري الشمالي، بينما هم يتآمرون. هذا التصريح، الذي بدا وكأنه محاولة لتحويل الانتباه عن العرض الصيني المهيب، يثير تساؤلات حول ما إذا كان ترامب يعكس قلقاً حقيقياً من هذا التقارب، أم أنه مجرد مناورة سياسية اعتاد عليها لفرض وجوده على الساحة الإعلامية.

 

 

رسائل قوية من بكين: الصين التي “لا يمكن إيقافها”

 

في المقابل، كانت الرسالة القادمة من بكين واضحة وحاسمة. أعلن الرئيس الصيني شي جينبينغ، في خطابه المؤثر، أن “نهضة الأمة الصينية لا يمكن إيقافها”. هذا التصريح ليس مجرد شعار، بل هو تأكيد على الثقة المتزايدة للصين في قدرتها على المضي قدماً نحو تحقيق أهدافها، بما في ذلك ما يشير إليه خطابها حول “تجديد شباب الأمة الصينية”، والذي يفهمه الكثيرون على أنه إشارة واضحة إلى طموحاتها بشأن تايوان. كما شدد شي على ضرورة “القضاء على السبب الجذري للحرب”، موجهاً رسالة ضمنية إلى العالم بأن الصين تدعو للسلام ولكنها لن تتردد في استخدام قوتها لحماية مصالحها.

 

 

تكتلات جديدة وتحديات عالمية

 

الحضور رفيع المستوى في بكين، والذي شمل أكثر من 20 زعيم دولة، لم يقتصر على بوتين وكيم جونغ أون فقط، بل ضم قادة من دول أخرى تتبع نهجاً مختلفاً عن الغرب، مما يعكس طموح الصين في بناء تحالفات بديلة. هذا التجمع، الذي يضم منظمة شنغهاي للتعاون، يبعث برسالة قوية بأن هناك بديلاً للتحالفات التقليدية التي تقودها الولايات المتحدة. وخلال هذه القمة، انتقد شي “سلوك التنمر” من بعض البلدان، في إشارة لا تخفى على أحد إلى الولايات المتحدة، بينما دافع بوتين عن الهجوم الروسي على أوكرانيا، مما يؤكد وجود تكتل يتبنى رؤى مختلفة عن الغرب في التعامل مع القضايا العالمية.

 

 

استعراض القوة: رسائل عسكرية وسياسية

 

لم يكن العرض العسكري مجرد احتفال بالماضي، بل كان استعراضاً للقوة العسكرية الصينية الحديثة. فقد تم عرض أسلحة جديدة ومتطورة، بما في ذلك صواريخ مضادة للسفن وطائرات بدون طيار وأنظمة مضادة للصواريخ، وكلها تم إنتاجها محليًا. هذا الاستعراض كان يهدف إلى التأكيد على أن جيش التحرير الشعبي الصيني “يجب أن يكون القوات المسلحة البطولية التي يمكن للحزب والشعب الوثوق بها والاعتماد عليها بشكل كامل”. إنها رسالة واضحة لكل من يتابع التطورات في المنطقة، وخاصة تايوان، بأن الصين مستعدة للدفاع عن سيادتها ووحدتها الإقليمية بحزم، وهو ما يجعل من هذه المناسبة أكثر من مجرد احتفال، بل تحذيرًا استراتيجيًا.

 

 

استراتيجية الصين طويلة المدى: تفكيك الهيمنة الأمريكية

 

وراء ضجيج العرض العسكري والخطابات الدبلوماسية، تكمن إستراتيجية صينية واضحة المعالم تمتد لعقود: العمل بشكل منهجي على تفكيك نظام الهيمنة الأحادي القطبية الذي قادته الولايات المتحدة منذ نهاية الحرب الباردة. فتجمع بكين لمحور من القوى المعارضة للغرب، وتعزيز التسلح المحلي، وخطاب “التنمر” الذي انتقدته، ليست ردود فعل عابرة، بل هي أدوات في صفقة أوسع. الهدف هو خلق نظام عالمي بديل متعدد الأقطاب، تكون فيه الصين قطباً رئيسياً له قواعده وقيمه وتحالفاته، مما يقوض بشكل تدريجي القدرة الأمريكية على فرض إرادتها على الساحة الدولية. هذا المشروع الطموح هو ما يفسر حجم القلق الحقيقي في واشنطن، والذي ينعكس – وإن كان بشكل فج وغير مدروس – في تصريحات مثل تصريحات ترامب، التي تعكس ارتباك النخبة الأمريكية تجاه صعود منافس لا يناسب أدوات المواجهة التقليدية.

 

 

وختامًا: نهاية حقبة وبداية عالم متعدد الأقطاب

 

في ختام هذا المشهد العالمي، نجد أن ما حدث في بكين ليس مجرد عرض عسكري أو اجتماع دبلوماسي عابر. بل هو نقطة تحول كبرى تشير إلى بداية عصر جديد من العلاقات الدولية. إن العالم لم يعد يدور حول محور واحد فقط، بل تتشكل فيه محاور قوة جديدة تسعى إلى تغيير قواعد اللعبة. وبينما تطلق الولايات المتحدة، من خلال تصريحات ترامب النارية، اتهامات بالتآمر، تواصل الصين وروسيا وكوريا الشمالية تعزيز تواصلها، مؤكدة على أن التحالفات القديمة ليست هي الوحيدة المتاحة. في هذا العالم المتغير، أصبحت المواجهة ليست مجرد صراع بين دول، بل بين رؤى مختلفة لمستقبل البشرية، حيث يتصارع السلام والمواجهة، والوحدة والانقسام.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى