قراءة تأملية لقصيدة “سرابٌ مُشتعِل” للشاعر هارون عمري
قراءة تأملية لقصيدة "سرابٌ مُشتعِل" للشاعر هارون عمري

قراءة تأملية لقصيدة “سرابٌ مُشتعِل” للشاعر هارون عمرى
الناقد والأديب الجزائري
المبروك بالنوي
القصيدة “سرابٌ مُشتعِل” للشاعر هارون عمري تنتمي إلى شعر التفعيلة تفعيلة بحر المتقارب (فعولن)، وتحمل بنية دلالية معقّدة تستحق التوقف عندها في ضوء مقولات التحليل النصي، التي تسعى إلى تفكيك البنية الداخلية للنص من خلال الصوت، الزمن، الفضاء، الذات، واللغة، بالإضافة إلى التشكيل الرمزي والانزياحات.
1. مقولة الصوت (الذات المتكلمة والآخر)
يحضر الصوت الشعري في هذه القصيدة كصوت ذاتي متفرد ومنكفئ على داخله، يتماهى مع الغربة والسراب والعدم، وينبعث من “فكرة” تولده لا من جسد واقعي. هذا التولد الذهني يضفي على الصوت صفة الانفصال الوجودي:
“أولدُ الآن من فكرتي / ظمئًا يتمادى بفطرتهِ في الصحارّي”
يتحوّل المتكلم إلى مرآة للقلق واللايقين، يتحدث من موقع مَن يرى الأشياء تتحلل: الحلم يهذي، العرض عتمة، والستار نشوة زائفة. لا يحضر الآخر (الأنثى) ككائن حقيقي بل كظلٍ غائب لا يترك أثرًا في الدم أو الحواس:
“لا امرأة كلّمتني فلم يتكهرب دمِي إثر عطرٍ”
هذا الغياب يعمّق عزلة الصوت، ويحوّله إلى كائن يمارس دفنه، لا حياته.
2. مقولة الزمن
يشتغل الزمن في القصيدة من خلال توتّر بين الماضي الحيّ والمستقبل المجهول. تبدأ القصيدة بصورة النهر الذي يولد من “غربة الماء”، لتؤسس بذلك زمنًا أسطوريًا متحوّلاً لا خطيًا. تتلاحق الأزمنة في تيه وجودي: من الطفولة (جداتنا)، إلى الحانة (الذكريات)، إلى القبر (قديم القبور).
كما أن مفردات مثل: “الآن”، “أولد”، “أمارسُ دفني”، تعكس تداخلًا في الأزمنة، حيث الحاضر محكوم بالماضي والمستقبل بلا أمل.
3. مقولة الفضاء
الفضاء الشعري يتحرك بين الصحراء، و”حانة الأبجدية”، و”ركح العتمة”، و”قديم القبور”، وهي كلها فضاءات انفصال، قطيعة، ولاانتماء. هذه الأمكنة لا تُؤنسن، بل تتحوّل إلى أماكن للتيه أو الطقس الرمزي:
“أرتمي عند ركنٍ على حانة الأبجدية ليلًا / أُخمّر معنايَ جدًّا على الذكرياتِ”
هذا الفضاء الوجودي المحموم يجعل القصيدة تتحرك في أزمنة رمزية لا واقعية، كما في صورة “مجمرة تفحّم فيها الشاعر”.
4. مقولة اللغة
اللغة هنا مجازية، رمزية، ذات كثافة تصويرية عالية. تعتمد على الاستعارات والانزياحات التي تحوّل المفاهيم البسيطة إلى إشارات فلسفية:
النهر = الغربة / الماء
الأحاجي = بقايا الأسئلة
الأبجدية = حانة
الموت = طقس يومي (أمارس دفني)
هذه الاستعارات تشتغل على إحداث انزياح تعبيري ودلالي يكسر الأفق التقليدي للقول الشعري.
5. مقولة الذات
الذات هنا ذات مفتّتة، مشتتة، قلقة، تحاول بناء هوية جديدة لكنها تصطدم بالعقم الرمزي:
“كما نسيَ الشاعرُ أن يكتبَ النّص / أظلّ”
إنها ذات لم تعد قادرة على الخلق أو حتى التعبير، تتحول إلى كائن يشاهد ذاته تتفحّم في مجمرة القصيدة.
إنّ قصيدة “سراب مشتعل” توظف أدوات شعر التفعيلة لبناء دراما شعرية داخلية تتنازع فيها الذات مع انكساراتها وغياب المعنى. عبر استخدام صور مفككة، وزمن دائري، وصوت متعب، تُعبّر القصيدة عن حالة وجودية ضاغطة، تنتمي إلى شعر ما بعد الحداثة في تمرده على المعنى، وفي انكفائه على اللاجدوى.