قراءة جماليَّة مختزلة في أحدث إبداعات هالة الشعار
قراءة جماليَّة مختزلة في أحدث إبداعات هالة الشعار

قراءة جماليَّة مختزلة في أحدث إبداعات هالة الشعار
كتب . سمير منصور
غالباً ما يكون الجّمال الذي لا نراه، هو الحقيقة المطلقة لمعنى وجودنا ! وعلى الأخص جمال الزمكان الموارب الٌذي يراوغ أبصارنا عنه، وهو يبالغ في قدسيته المحرمة في لعبة الحواس المتيقظة دائماً وإن كانت عتمته لن تصمد طويلاً أمام برق عيون وعينا الثاقبة. ولأن الجّمال كان الخيال سابقاً في ميثولوجيا اللغات الغابرة، أصبح اليوم هو واقعيّة المشهد التي تخبئ بريق السّحر والفتنة في عتمة العادي الروتيني، ولعل ذلك هو سرّ جوهر المسألة.
عالم آخر يُبنى الآن من نسغ اللاشيء، فيما أوراقُ الإزدرخت الباهتة _ وهي آيلة للسقوط _ تنسج الظلال في خضرتها الدّنيا بخيوط النّور التي تنثر فراشات النّص خارج نافذة في خضرتها الدّنيا بخيوط النّور التي تنثر فراشات النّص خارج نافذة الوعي الذي يحرس الذّاكرة، في إطار ملحمة للعطاء لا تتوقف أبداً على شفير الموت المتربص بكل شيء، والذي أصبح أخيراً أيقونةً لجماليات الفاني في خضرته القصوى، لا ضداً في ثنائية الموت والحياة المستمرة.
نصٌ فاتن تحلى هيكله ببنية ” اشيبوتسوجيتاته ” الشهيرة من دون قطع (كيريجي) _ ليس ضرورياً _ ويتدفق تراتبي غني الدلالة بحركة واحدة، في مشهد أحادي الصّورة ذو طبقتين إحداها شجرة الإزدرخت ذات الأوراق الكبيرة والأخرى ظلالها العريضة.
تنحي كامل للشاعرة هالة الشعار ( صاحبة المجموعة الشعرية ورقة النارنج المسحولة ) عن حدث المشهد، مما يترك لسحر واقعيته فرصة عظمى في التجلي عبر مستويات لغة النص محايدة.
لمحة الفصل غير المباشر (الكيغو) والتي توشّح مناخ النّص ببدايات الشتاء وآواخر الخريف، تتأرجح بأناقة بين المفردات (آيلة للسّقوط) و(الباهتة)
تكثيف أنيق يعكس إختزال المبنى المبنى وكثافة المعنى للغة النص (شيبومي متقن).
لقطة النص الجمالية (ساتوري):
إبسط جماليّة ممكنة نقارن بها لقطة النّص مثلاً هي جمالية الشّمعة التي تَفنى رويداً رويداً لتترك لنا قبل تلاشيها شيئاً من بهاء النور، إلا أن لقطة النّص هنا (الأوراق الآيلة للسّقوط والتي لا تكفّ عن تخليق السّكينة والأمان في ظلال الأخضر المحتضر) والتي تفتح مخيلة المتلقي على عالم كامل من دلالات التّيمات الجّمالية المتوحدة المتوازية، مثل الموت والحياة، الخلود والفناء، الشّمس والظلال، الزّوال والإستمرار، الحاجة والعطاء .. وحتى بشاعة الموت وروعته.
بخلاف كل التقنيات السابقة، يتكئ النص على تقنيات أخرى لطالما ميّزت العبقرية الشعرية الخاصة لقصيدة الهايكو، مثل: هيمنة الكآبة الخريفيّة اللطيفة المشتقة من الأوراق الباهتة الآيلة للسّقوط على مناخ النّص (سابي).
إعادة البهاء لشجرة الإزدرخت الباهتة عبر مستوى نسجها للظلال، وقد نال إصفرار الخريف ما نال إصفرار ما نال من خضرتها القصوى (وأبي) توشّح مستوى لغة النّص بغلالة من رهافة الحكمة القديمة وأصالة المعاني (اليوغن).
التعاطف الجلّي والتبجيل الكلي لأوراق الإزدرخت التي تحتضر ولا تكفّ عن نسج ظلال الحياة تحت شمس خريفها الشّاحبة (شيوري).
أناقة في عرض المقاربة المشهدية لمسرح النّص المتوَّج بأوراق الإزدرخت الباهتة كحدث خريفي عادي ومألوف دون اللجوء لأي تزيين أو إزاحة ذهنية ( كارومي )
العناية الفائقة بأبسط مجريات أحداث الطبيعة المنسية الهامشية (مجرد شجرة إزدرخت باهتة) ثم نزع نسغ رحيقها الشعري من أغوارها السحيقة كقيمة جمالية عالية (هوسومي).
ولأن الهايكو قصيدة مشهديّة تؤلّفها الطبيعة أو الواقع بكل هدوئه أو تشظياته ولا تقتصر مهمة الشاعر إلا على إلتقاطها وصياغتها لغويا بأمانة وموضوعية ، فإن هذا النص بكل تقنياته المرهفة الشفيفة قد تجاوز تخوم اللغة في أبعادها الدلالية والمعنوية حتى فاضت عن إطار المشهد وذابت في أغوار النفس كرهان أخير على كثافة المعنى وشعريته ، والتي تبلور معنى وجودنا أخيرا إقصاء لعدمه .
التقنيات الفنية لقصيدة الهايكو:
طالما أن قصيدة الهايكو تبنى في أبسط أشكالها على ثلاث مستويات فنية أساسية : المشهد الحسي ، الزمن الآني ، اللقطة الجمالية.
والتي جميعها تبلور شعريتها المميزة ، فإن لتقنيات بنائها طابع فني خاص يتناغم مع آليات إلتقاطها أولا ثم صياغتها ثانيا بخلاف تقنيات أنماط الشعر الأخرى التي تبنى عادة على الخيال المتوج بالمجاز والإنزياحات الدلالية والإزاحات الجمالية .
يمكن تصنيف تقنيات بناء قصيدة الهايكو إلى ثلاث مستويات متضافرة :
المستوى الأول : يمكن لشاعر الهايكو بناء نصه ، بما يراه الأنسب جماليا ، بإحدى البنيتين التي تصاغ بهما قصائد الهايكو عموما ، وهما :
بنية ( توريا وازه ) الأكثر شيوعا ، والقائمة على مشهد ثنائي الصورة ( خلفية وأمامية ) مختلفتين كليا ، وتتصلان بقوة عبر خيط لقطة جماليّة ما .
مثل :
ضباب سفح الجبل
بين سمائين
يغفو الأخضر
بنية ( إيتشيبوتسوجيتاته ) وهي بنية كل نص هايكو لايعتمد بنية ( تورياوازه ) ، وهذ البينة أحادية الصورة في بطبقة واحدة أو طبقتين وتنثال في عبارة واحدة متدفقة لا تحتاج إلى قطع مثل :
النسيم الحامل
للعطر البري
هل هو اللاشيء
– ( الكيفو ) أو الفصل الموسمي لزمن القصيدة ، هو مناخ النص وبمثابة الموسيقا التصويرية للمشهد السينمائي وله أهمية خاصة في بلورة الدلالات الجمالية للقطة المشهد ، ويتضمنه النص بشكل مباشر أو غير مباشر مثل أواخر الخريف في النص التالي :
بصيحتين
قبل السفر جنوبا
ودعيني أيتها الإوزة
هنا يوحي النص بأواخر الخريف وهو موسم هجرة الإوز إلى الجنوب .
( الكيرجي ) : وهي تقنية القطع التي ترشد المتلقي إلى : متى أو كم يتوقف قبل إجتراحه لمفاجأة أو صدمة النص مثل :
أو تدعوه إلى الاستمرار في مغامرة اكتشاف مكنونات النص مثل : ) ( .. ) ( – ) ) ( ، ( أو تدعوه إلى الاستمرار في مغامرة اكتشاف مكنونات النّص مثل ( ! ) ( ؟ ) ( !؟ )
التنحي والحياد : وهو عدم تدخل أو تلاعب الشاعر بعفوية وطبيعة المشهد ، ولا يعني ذلك عدم تواجد الهايجن في النص بل عدم تمركز النص على الذات ، فالشاعر متواجد حكما ، ونجاحه في التنحي يقتصر على تقديم المشهد بكل موضوعية دون تكلف أو تصنع أو زخرفة لغوية تشي بتسليط ضوء النص عليه ، مثل :
الطريق السريعة
غزال نافق
وسبع نسور
( الشيبومي ) : هي وضع الصياغة اللغوية المثلى للنص ، وهو مايعني تحديد المفردات اللازمة ( بالضّبط ) للنص ، والملائمة تماما لمتطلباته ، وبحيث يستغني كليا عن أي آلية تعديل بعد صياغته ، سواء بأية حذف ممكن فيه ، أو زيادة عليه .
المستوى الثاني : التقنيات الخاصة ببلورة شعرية قصيدة الهايكو .
– تقنية ( الشاسيئي ) : قنص اللقطة الجمالية ( الساتوري ) من خلفية المشهد خلال الذوبان الكلي في مستوى التوتر الحاصل بينها وبين الصورة الأمامية .
– ( تقنية السابي ) : التغيرات التي تمس أشياء وكائنات الطبيعة والواقع بفعل الزمن .
– ( تقنية الوابي ) : وهو الشعور الجياش بالحنين إلى للأشياء القديمة التي تغيرت بفعل الزمن وإعادة بريق البهاء لها.
– ( تقنية اليوغن ) : غلالة الحكمة القديمة التي توشح كل الأزمنة بلا انقطاع .
– ( تقنية الشيوري ) : التعاطف النبيل مع موجودات الطبيعة وعلى الأخص الأشياء الصغيرة المنسية المهمشة الأكثر فعالية في الكشف عن أسرار الجمال الخفي للواقع .
– ( تقنية الكارومي ) : العفوية في مقاربة المشهد بخفة ورشاقة دون أي آلية تعمد .
– ( تقنية الهوسومي ) : توجيه اليقظة الدائمة صوب أقل أشياء الطبيعة أهمية شعرياً .
المستوى الثالث : التقنيات الفنية المبلورة لجمالية اللقطة المستمدة من ثنايا المشهد تعتبر اللقطة الجمالية للمشهد ( ساتوري ) هي الفتنة التي تلامس شغاف الوعي الجمالي ، وتجعل النص يفيض بالق الدلالات والمعاني ، وبدونها يصبح النص مجرد خبر على ورقة ، وهناك ما يقارب عشرون تقنية فنية تستخدم لإظهارها على أكمل وجه ، سأذكر هنا فقط أهم التقنيات التي تستخدم في القصيدة الهايكو العربية .
– تقنية المفارقة المشهدية ، وهي الأكثر شيوعاً .
– تقنية التفاوت أو التباين بين صورتين متشابهتين .
– تقنية المقارنة بين عنصرين أو موضوعين متشابهين أو مختلفين .
– تقنية المزج بين مستويات الحواس الخمسة .
– تقنية التماثل بين عنصرين مختلفين .
– تقنية المعنى المزدوج لقيمة جمالية واحدة .
– تقنية الجمع المنسجم بين النقيضين .
– تقنية المزاح والطرفة والسخرية في مواقف جاد .
– تقنية الاول كالأخير .
– تقنية الاستعارة .
– تقنية تضييق الرؤية على نقطة مهملة .
– تقنية اللغز والحيرة .
– تقنية تغيير الحس المعنوي.
– تقنية تورية شيء ما عبر التلاعب بالألفاظ .