قصة قصيرة بعنوان ” الباشا ” عبد الرزاق الياسين
قصة قصيرة بعنوان " الباشا " عبد الرزاق الياسين

قصة قصيرة بعنوان ” الباشا “
عبد الرزاق الياسين
أحس برائحة الفلافل تهينه، وتسخر منه ومن جوعه الذي لا يستطيع إشباعه بسندويشة منه؛ لأنه لا يملك في جيبه سوى ألفي ليرة يتيمة. أخرج الورقة النقدية من جيبه، ونظر إليها محتقرا، حانقا. انهال عليها بالشتم ، والتحقير، وبدأ يعصرها بين يديه منتقما من عدم جدواها. انتفضت الورقة النقدية بين يديه فجأة ، وبدأت بدورها ترد الصاع عشرا ، فتشتم، وتستهزء، و تلكم ، وترفس …
وبعد أن تهالكا ، وتورمت ملامحهما، أحسا بالشفقة أحدهما على الآخر ، حيث فهما أخيرا أنهما شركاء في المحنة، ولا يليق بهما أن يفرغا ضيق صدريهما ببعضهما؛ لأن ذلك من شأنه أن يحول الأذهان عن العدو الحقيقي.
بدأ كل منهما يواسي الآخر، ويربت على كتفه ويعزيه، و يقبل جبينه. و شتما معا الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية ، وكل ما يخطر ببالهما من مفردات يعتقدان أنها السبب في تدني قيمتهما معا.
ثم هاهما يهدآن، ويتوصلان إلى تسوية ملائمة ترد لكل منهما مهابته وكرامته المسلوبة، ولو لوقت مؤقت: ثمة بعض الباعة الذين يحتفون بالزبون ، ويهيلون عليه أطنانا من المديح والمجاملات مهما كانت قيمة الشيء المراد ابتياعه ضئيلة.
نفض ” سليمان ” آثار المعركة عن ثيابه، ومشى يتلفت باحثا بعينيه عن المكان المنشود.
“أجل.. أجل” هتف بفرح ،و توقف أمام محل معجنات، ثم بدأ يتفرس بقائمة الأسعار متحيرا:
إن الألفي ليرة تخوله شراء قطعة واحدة من أحد أربع أنواع :(المحمرة، الزعتر، الجبن، واللحم) .
قرأ كلمة لحم بنشوة وتفكر :” سنصرف و سنصرف؛ فليكن ما أشتريه مستحقا الصرف إذن. سألتهم بمالي قطعة “صفيحة” بلحم العجل انتقاما من الكون الدنيء كله ”
نظر إلى البائع الذي كان ينتظره نافد الصبر لينطق جوهرته ، وكان قد حثه بمجرد وصوله مرحبا ” أهلا وسهلا ، تفضل ” . أما الزبون فلم يتنازل أن يرد التحية ، وظل منغمسا بأفكاره وأحلامه.
ثم ها هو ذا أخيرا يفرغ مافي جوفه بزهو طاووس مفخما كل كلمة يقولها :
“أعطني صفيحة لحم واحدة إذا سمحت”
سارعه البائع :” تكرم عينك ” ، و حمل قطعة اللحم إلى الفرن لتسخينها.
بدأ صاحبنا ينظر إلى الفرن متلذذا، مفتتنا، يتابع تفاصيل نضجها لحظة بلحظة، و اندمج مع الأبخرة المتصاعدة منها، وتحول بلحظة إلى بخار يطير في الجو بمرح و حرية.
مرت دقيقة .. أخرج البائع القطعة ولفها بورقة ، وأعطاها لزبونه العزيز مردفا : ” تفضل باشا ”
تدفق دم الباشاوات بحرارة في عروقه، وأحس بزهو الكون كله يجتمع في قلبه.
أخذ القطعة بكبرياء، وأعطى البائع الألفي ليرة وكأنه يحسن إليه بذلك.
لم يكد يمشي ثلاث خطوات، فإذا بقطة لعينة متربصة، تقفز برشاقة، وتسرق القطعة ، ثم تدخل في حارة فرعية على بعد خطوتين ، وتركض بسرعة هائلة دون أن تلوي على شيء.
أحس “سليمان” بالإهانة تخزه كالإبر، وغلت النقمة، للحظات ، في قلبه. هم بالركض لاسترداد حلم كرامته الضائعة؛ لكنه سرعان ما هدأت نفسه وتعدل مزاجه. توقف أمام الحارة يرقب القطة الراكضة: بدا له المشهد كوميديا وفجر لديه رغبة لا تغالب بالضحك :
“كليها يا (بنت الحرام) ‘كليها….لا تنسي أن تطعمي معك صغارك ، وكل من ترينه في طريقك من القطط.”