شعر و ادب

قصة : مجرد تبادل أدوار

قصة : مجرد تبادل أدوار

قصة : مجرد تبادل أدوار

بقلم . سامر خالد منصور

الجميع يتدافعون.. البعض يقف على رؤوس أصابعهِ ويمدُّ عنقهُ.. كانت المنصة وسط حديقة (شامب دي مارس)(1) أشبه بمغناطيسٍ للأبصار.. وكان هناك مئات اللافتات الإعلانية التي حملة شعار شركة (وجه الغزال) العالمية لمواد التجميل، وكان هناك شاشات عرض عملاقة منتشرة، بحيث تتيح لمن لا يستطيع مشاهدة المنصة بوضوح رؤية الحدث بكامل تفاصيله..
كان التدافع مزعجاً وكأننا حشدٌ في زقاقٍ إسباني تداهمهُ الثيران السوداء في إحدى تلك المهرجانات المجنونة. وأكثر المندفعين شراسةً أولائك الصحفيين ومراسلي الإعلام المرئي الذين كانوا أشبه بكلابٍ برية جائعة اشتمت رائحة الدم. فوصولهم إلى المكان المناسب لالتقاط الصور المُثلى يعني المال الوفير. لقد ارتطمت ركبة أحدهم برأس طفلٍ وظلَّ يثب ويعدو. وقد ألقى بكلمة اعتذارٍ إلى والد الطفل دون أن يلتفت إليه. ناظراهُ كانا منهمكين في البحث عن المكان المناسب لالتقاط الحدث بتفاصيله. عالمٌ شهير يُدعى ماليير دغوار كان قد أعلن عن إمساكهِ بكائنٍ عاقل ليس من أبناء الجنس البشري وصرَّحَ عبر وسائل الإعلام قائلاً:
‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏- لن تتخيلوا ما الذي أمسكنا به. لقد وصلتنا أنباءٌ عن ذلك الكائن الغريب منذ عقدين من الزمن وقد أطلقت شركة (وجه الغزال) العالمية لمواد التجميل حملة على نفقتها الخاصة مدججة بأحدث معدات الرصد وأجهزة الأشعة.‏
وما أثار دهشتي أن عدداً من العائلات قد اصطحبت أطفالها لرؤية الكائن الغريب ولم أفهم ماذا يدور في خلد أولياء الأمور هؤلاء. تحدث العالم الشهير ماليير دغوار مطولاً عن التجهيزات الفائقة و المتطورة التي أتاحت رصد ومتابعة الهدف والإمساك به حياً. وأخذ يتباهى بإمكانيات العلم التي جعلت كلَّ شيء متاحاً. وذكر أن الإنسان بات قادراً على الرؤية والسماع وتتبع الروائح.. بصوتٍ ووقفة ينضحان غروراً ثم صمت لبرهة وأردف قائلاً:‏

– لا يمكن لأي شكل من أشكال الحياة أن يتواجد على هذا الكوكب دون أن نعلم به وإن فكر غرباءٌ بالدخول إلى كوكبنا فعليهم أن يستأذنوا أولاً.‏
أخذ ماليير يغير طبقة صوتهِ ويذكر اسم الشركة الممولة للحملة كلما أتم ستة عبارات. وبدا من الجلي أن بينه وبين الشركة اتفاقٌ ينصُّ على ذلك.. كانت الأنظارُ معلقة على المنصة الهائلة المثقلة بتقنيات الإضاءة وكاميرات وسائل الإعلام ذات المناصب السوداء والفضية، وكانت هناك شاشات ضخمة موزعة في الساحة تبث ما يجري على تلك المنصة كي تتمكن الحشود الممتدة على مرمى البصر من مراقبة الحدث. كنت مستعداً للتخلي عن حذائي قذفاً باتجاههم إن لم يصدقوا قولهم ويعرضوا علينا كائناً فريداً لا علم لنا بوجودهِ.‏
استمرّت ساعات التشويق وتكرر اسم شركة مواد التجميل مراتٍ لا تحصى في مسلسلٍ من الإعلانات والتبجح حتى هممتُ بمغادرة الساحة.. لكن شهقاتٍ أطلقها بعض الحضور نادت الفضول كي يصفعني ويدير وجهي باتجاه المنصة مجدداً.‏
كان العلماء قد قذفوا برجلٍ عجوز إلى وسط المنصة، وكان العجوز مذعوراً، وقد بدا عليه أيضاً المرض والوهن. وكانت أجهزة غريبة موجهة نحوه من الأعلى ومن جميع الجهات. قال العالم ماليير: ليس عجوزاً بائساً كما يبدو.. والآن راقبوا معجزات العلم.‏

دوى صوت تلك الأجهزة الغريبة وكأنها باتت تعمل بدرجةٍ أعلى فعالية، فإذا بهيئة العجوز تتحول. باتت هيئات بشرية متعددة الأعراق والأعمار تتنازع وجههُ بالإضافةِ إلى هيئةٍ غير بشرية مفزعة ما لبثت أن ابتلعت الملامح البشرية وأخذت تستحوذ على وجهه بأكملهِ ثم بدأت هالة من الدخان الأبيض الشفيف تلف جسدهُ من الوسط إلى الأسفل ومن الوسط إلى الأعلى. ثم انبعثت نيرانٌ غريبة غسلتهُ من ثيابهِ وشعر لحيتهِ ورأسهِ. كان غريباً.. غريباً. وكانت الأحداقُ والأجفانُ والحناجرُ والأوصالُ جامدة في حضرة قبحهِ.. نعم قبحهِ.. فهو غير مألوف ومجهول، إذاً هو قبيح حتى لو كان أجمل كائنات الكون.. ومن يدري إن كان من حضارةٍ فضائية ما. فلعل الناس يتشبهون بهِ وبأبناءِ جنسهِ من قبيل التجديد والموضة ما إن يعتادوا هيئتهُ. كان أول من كسر الصمت المطبق على المكان.. امرأة عجوزٌ صاحت: إنه الشيطان.‏
تراجع الناس مبتعدين عن المنصة. تراجعوا كجسدٍ واحد بأرجلٍ عدة. كان هناك تزامن ملحوظ في تراجعهم. لم يعد التفاوت في السن والجنس والفضول ودرجة الثقافة مؤثراً في تلك اللحظة. لقد ألغى الخوف جميع الفوارق وقادهم في حركةٍ تكاد تكون موحدة.‏
تقدم العالم ماليير باتجاه الجماهير بثقةٍ وزهو وقال:‏
لم أكن أتخيل أنني سأقول ما ستسمعونه الآن. ربما لو لم أكن رئيس هذه الحملة وعلى درايةٍ بجميع تفاصيلها لكنتُ…‏

لم نسمع بقية كلمات ماليير ذلك أن أجهزة الصوت باتت تذيع موسيقى إعلانات شركة مواد التجميل فالعالم وفريقهُ قد غفلوا عن ذكر اسم الشركة بمعدل أربعة مرات في الدقيقة ومضت دقائق دون الترويج لها ويبدو أن بينهم اتفاقاً حول ذلك، جزاء الإخلال بهِ هذه المقاطعة الفجة والمقيتة، وقد تأفف الناس وشتم بعضهم الشركة بطرائق إبداعية. نعم فالحاجة أم الاختراع. ونحن في حاجة لأن يخرس التجار ويوقفوا صخبهم كي نسمع العلماء.. استأنف العالم ماليير كلامه قائلاً:‏
لم أتخيل، لم أكن أتخيل أنني سأقول هذا يوماً. نعم سيدتي. إنه الشيطان.‏
هذا الكائن كائنٌ قديم يكره الجنس البشري ولا يتصف لا بأنوثة ولا بذكورة. اعترف تحت التعذيب بأنه الشيطان لكنه لم يعترف برواية محددة من روايات الأديان والأساطير عنهُ. راقبناهُ وبحثنا عن عشيرة أو نظير له وأؤكد لكم أنهُ وحيدٌ في كوكبنا.

إن مفهوم الشيطان من أكثر المفاهيم المتحولة خاصة من حيث الوصف الشكلي الظاهري له. وهو محور أساطير كبُرى خالدة.. أما حقيقتهُ فها هي أمامكم كائنٌ يندس بين البشر وليس منهم وقد أقرَّ بكرهه لنا ولكنه لم يقل كلمة واحدة عن الجنة أو آدم وحواء…. نحن نستخدم إشعاعاتٍ غير مرئية وتكنولوجيا هائلة لإخضاعه والسيطرة عليه.‏
لست أحبذ التفكير في نطاق الثنائيات فذلك من عيوب العقل البشري بمعنى عثورنا على هذا الكائن وعند تقريبهِ إلى مفاهيمنا تسميته بالشيطان لايعني بالضرورة أن هناك نقيضاً له (ملائكة أو إله). ما يهمني الآن هو دراسة الخصائص الفسيولوجية لهذا الكائن كي نستفيد منها وقد اكتشفنا أن الأمراض التي يعاني منها البشر هي من جسدهِ هذا. فجسدهُ بمثابة مصنع للفيروسات والجراثيم وهو يخاف من الأدوية التي توصلت إليها البشرية لأنها تضعف.

لقد أخرج العلم الشيطان (المرض) من المدن والقرى عبر المستشفيات ونعدكم بالقضاء على جميع الأمراض وقد أصبح مصدرها بين أيدينا. وإن لهذا الكائن مقدرة على التحكم بالطقس أيضاً جردناهُ منها فلا جفاف ولا مجاعات في أفريقيا وغيرها بعد اليوم. وهناك أخبارٌ جيدة أخرى سوف نطلعكم عليها لاحقاً. ولتعلموا أننا غنمنا آلاف الأبنية الضخمة حول العالم. لقد أخذنا زمام الأمور بأنفسنا لاحاجة لنا للمعابد يجب أن تغدو جميعها دوراً للعلم.. على كوكبنا نحن الأسياد.‏
صاح أحد الناس من بين الحشود: دعوا الشيطان يتكلم.. دعوه يقل شيئاً.‏
فأجابه العالم ماليير: عندما ينطق العلم لا يُسمع للشيطان صوت.‏
والآن قولوا وداعاً للمرض وللضعف ومرحباً بالخلود والصحة فنحن سوف ندرس مقدرة جسد الشيطان على الخلود وننقلها إلى البشر عبر العلم. وسنستفيد من هذا المخلوق القديم الخارق بكل ما أودعه الكون في جسده من أسرار. إنه غنيمة المنتصر. غنيمة الإنسان بفضل العلم.‏

بعد هذه الوعود بأشهر قليلة تبدل حال البشرية وسرعان ما باتت المستشفيات خاوية وسادت أجواء من التفاؤل. لكن المستشفيات لم تغلق أبوابها وكذلك مصانع الدواء وكأنهم بانتظار شيءٍ ما. وبالفعل ظهرت عشرات الأصناف من الفيروسات والجراثيم الجديدة، وبات هناك أمراَضٌ تفعل العجب العُجاب بأجساد البشر. والمريب أن شركات الدواء الكبرى كانت تطرح العلاج بسرعة لتلك الأوبئة لدرجة أننا شعرنا أن بعض الفيروسات والأدوية الفاتكة بها كانت تتدفق في الشوارع سوياً.‏

كثيراً ما شاهدت صوراً للعالم ماليير وفريقهِ الذين باتوا نجوم الشاشات. ولم أفهم لماذا يصرون على ارتداء ملابس براقة وملفته تبدو كطراز معدل وفق روح العصر عن ألبسة ألفيس بريسلي ومايكل جاكسون. ثم ابتعدوا عن الظهور الإعلامي وانقطعت أخبارهم لتتسرب لاحقاً صورٌ أثارت ضجة عالمية تظهر وجه ماليير وقد نبتت فيه ملامح غير بشرية ويظهر في تلك الصور مرتدياً ملابس باهظة التكلفة وغريبة.. ثياباً لا تستطيع حصرها بأنوثةٍ أو ذكورة. ماليير وأصدقاؤهُ لم يكونوا يكرهون البشر. لكنهم كانوا يحبون أنفسهم كثيراً. وسرعان ما سمعنا أنباءً عن موت الشيطان. لقد انهار تحت وطأة كثرة التجارب البشرية.‏. ولكن العالم ظل يعاني من الحروب والصراعات ولم يصبح مكاناً أفضل.. ياقاتل الشيطان والخرافة ماذا ومن تقتل اليوم؟! ولأجل مَن؟!

(1)حديقة فرنسية يقع فيها برج إيفل الشهير.‏

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى