قصيدة لا تعذليه ِبين الحزن و الرضا / زيد الطهراوي
قصيدة لا تعذليه ِبين الحزن و الرضا / زيد الطهراوي

قصيدة لا تعذليه ِبين الحزن و الرضا / زيد الطهراوي
امتلأت قصيدة “لا تعذليه فإن العذل يولعه ” لابن زريق البغدادي بالتسليم لله و الرضا بقضائه كما امتلأت بالحزن كشعور طبيعي لا انفكاك عنه و الحزن يمنع من فعل الخير و يحبط و لذلك منع الاسلام من التمادي فيه
و لقد عانى الشاعر من فراق زوجته من أجل طلب الرزق و كانت هي الناصحة له بأن لا يسافر مقتنعة بالفقر ا مفضلة له على الفراق لكن الشاعر صمم على الرحيل
لا تَعذَلِيه فَإِنَّ العَذلَ يُولِعُهُ
قَد قَلتِ حَقاً وَلَكِن لَيسَ يَسمَعُهُ
جاوَزتِ فِي لَومهُ حَداً أَضَرَّ بِهِ
مِن حَيثُ قَدرتِ أَنَّ اللَومَ يَنفَعُهُ
فَاستَعمِلِي الرِفق فِي تَأِنِيبِهِ بَدَلاً
مِن عَذلِهِ فَهُوَ مُضنى القَلبِ مُوجعُهُ
هنا يظهر أول خيط من الحزن يريد أن يلتف حول الشاعر و لكنه يقاومه بكل ما أوتي من عزم فيقول في أحد أبيات قصيدته :
لا أَكذِب اللَهَ ثوبُ الصَبرِ مُنخَرقٌ
عَنّي بِفُرقَتِهِ لَكِن أَرَقِّعُهُ
ينطق شاعرنا بالحقيقة و إن كانت مرة : سأكون صادقاً مع الله ؛ إن صبري يكاد أن ينفد فالفقر و الغربة يحاصرانني و لكنني أقاوم ذلك إن خرق ثوب الصبر دليل على الحزن الذي يلازم الشاعر و إن ترقيع ثوب الصبر دليل على سير الشاعر في طريق الصبر الجميل
و هذه الصورة من أجمل الصور الفنية التي التحمت مع واقع الشاعر الحزين فجمعت على القارئ الحزن على مصاب الشاعر و الفرح بتصويره البارع
ثم يغرق الشاعر في ذكرياته ليؤكد لزوجته أن فراقها ليس صعباً عليها وحدها بل هو صعب عليه أيضاً و لكن الأخذ الأسباب واجب و هو يعاني من الصعوبات و السفر و كأنه مسؤول عن أن يقطع أرض الله جيئة وذهابا و لكنه مؤمن بالله و راض بقدره فاللوم هنا ليس على القدر و لكن على حرص الإنسان و جشعه فما دامت الأرزاق قد قسمت من الله عز وجل فإن حرص الإنسان بغي لأنه يؤدي إلى الجشع و الظلم فيقول شاعرنا
قَد وَزَّع اللَهُ بَينَ الخَلقِ رزقَهُمُ
لَم يَخلُق اللَهُ مِن خَلقٍ يُضَيِّعُهُ
لَكِنَّهُم كُلِّفُوا حِرصاً فلَستَ تَرى
مُستَرزِقاً وَسِوى الغاياتِ تُقنعُهُ
وَالحِرصُ في الرِزقِ – وَالأَرزاقِ قَد قُسِمَت –
بَغِيُ أَلا إِنَّ بَغيَ المَرءِ يَصرَعُهُ
وَالدهرُ يُعطِي الفَتى مِن حَيثُ يَمنَعُه
إِرثاً وَيَمنَعُهُ مِن حَيثِ يُطمِعُهُ
و تظهر الصورة الفنية مرعبة عندما شبه الحرص بالشخص القوي الذي يطرح الحريص أرضاً و يقضي عليه لأن الحرص يؤدي إلى طلب الرزق بمعصية الله
و الشاعر يعترف بأنه مخطئ مع أن عذره واضح و لكنه وجد زوجة متمسكة به صابرة على ضيق الحال فهو يلوم نفسه أشد اللوم و يدعو ربه أن يحفظ زوجته التي تركها بالكرخ (
حيٌّ من أحياء بغداد ينتمي إليه الشاعر ) واصفا إياها بالقمر ( من فلك الأزرار مطلعه) و الفلك هو مدار القمر و قد شبه النجوم بأزرار القميص أي انه قمر يطلع من نجوم منتظمة مثل انتظام أزرار القميص و هي صورة فنية استغربها المهتمون بالأدب مع اعترافهم بجمالها و طرافتها
و هنا يتعاطف القارئ مع الشاعر و هو يعاني من الحيرة التي وقع فيها فهو يلوم نفسه أحياناً و أحياناً أخرى يعذرها
أستَودِعُ اللَهَ فِي بَغدادَ لِي قَمَراً
بِالكَرخِ مِن فَلَكِ الأَزرارَ مَطلَعُهُ
وَدَّعتُهُ وَبوُدّي لَو يُوَدِّعُنِي
صَفوُ الحَياةِ وَأَنّي لا أَودعُهُ
وَكَم تَشبَّثَ بي يَومَ الرَحيلِ ضُحَىً
وَأَدمُعِي مُستَهِلّاتٍ وَأَدمُعُهُ
ثم يتذكر الشاعر أياماً مضت مع زوجته سعدا بها قبل الفراق و يختم الشاعر قصيدته و هو معتز بإيمانه بالله و أن الله لن يضيعه و يرجو أن يجمعه الله بزوجته و لكن إن مات أحدهما قبل الآخر فلا سبيل لهما إلا القناعة بحكمة الله في اقداره
عِلماً بِأَنَّ اِصطِباري مُعقِبُ فَرَجاً
فَأَضيَقُ الأَمرِ إِن فَكَّرتَ أَوسَعُهُ
عَلّ اللَيالي الَّتي أَضنَت بِفُرقَتَنا
جِسمي سَتَجمَعُنِي يَوماً وَتَجمَعُهُ
وَإِن تنل أَحَدَاً مِنّا مَنيَّتُهُ
فَما الَّذي بِقَضاءِ اللَهِ يَصنَعُهُ
و قد عالجت القصيدة مشكلة فردية خاصة بالشاعر و لكنَّ موضوعها جاء إنسانياً عاما يعالج الفقد و الاغتراب فإذا بها تعبر عن كل من فقد أخاً في الله أو صديقاً أو قريباً أو زوجة أو أبناء و عن كل من اغترب عن وطنه مهما كانت الدوافع
و استمرَّ الحزن يصبغ القصيدة كلها فظهر في مشهد العتاب له من رفيقة حياته ، و ظهر في مشهد وصف الغربة المريرة إلى مشهد الوداع القاسي ثم مشهد التذكر المؤلم ، و جاءت صبغة التسليم بالقضاء لتمحو صبغة الحزن رغم قوتها
و النقاد يقولون : إن الشاعر لم يبدع إلا قصيدته هذه و هم مستغربون من ذلك و من أنه ليس مشهورا في الشعر لكنّهم معترفون بأن هذه القصيدة الفريدة حملت من الصدق والجمال ما جعلها صامدة عبر الأجيال إلى أيامنا هذه التي ننشد فيها مع شاعرنا :
> قد وزّع الله بين الخلق رزقهمُ
لم يخلق الله من خَلقٍ يضيّعُهُ