شعر و ادب

محمد القيسي شاعر الغربة و الأمل. بقلم / زيد الطهراوي 

محمد القيسي شاعر الغربة و الأمل. بقلم / زيد الطهراوي 

محمد القيسي شاعر الغربة و الأمل. بقلم / زيد الطهراوي

 

يمتلئ الشعر الفلسطيني على مدار السنوات بشعراء أبدعوا و مزجوا كلماتهم الجميلة بعبء النضال المرير فثبتت أقدامهم و انتشر شعرهم في حياتهم و بعد مماتهم ليكون الجمال أداة صارخة على ارتكاب الجريمة

 

محمد القيسي شاعر فلسطيني بعيد عن الأضواء و السؤال هنا هو : إذا كان الشاعر قد اختار البعد عن الأضواء و الضوضاء فما هو السبب في ابتعادها عنه و هي تتبع غيره من الشعراء من أبناء جيله و تنشر أشعارهم و تحصي نبضات قلوبهم فإذا تصفحت الموسوعة الشهيرة ويكيبيديا فإنك تجد كلمات قليلة عن شاعر نظم الشعر

و ألَّف الكتب و تجول في البلاد و عمل في الصحافة و هذا ما يشعرنا بالحزن فمن أسباب هذا التجاهل أن الإعلام لا يبحث عن القيمة بقدر بحثه عن ما يثير الاهتمام فالشاعر لم يمكث في فلسطين إلا مرحلة الطفولة و سنوات قليلة من مرحلة الشباب و كان الشعر المقاوم الذي يواجه المحتل يوميا في فلسطين يسيطر على المشهد كله خاصة و أن العاطفة كانت تتأجج محبة و تضامنا مع شعراء المقاومة ؛ توفيق زياد و سميح القاسم و محمود درويش و سالم جبران و بذلك أهملوا تجارب شعراء فلسطينيين مبدعين لم يكن ذنبهم إلا أنهم عاشوا في الشتات

 

و إن كان الإعلام العربي قد ظلم الشاعر محمد القيسي كما ظلم غيره مثل عز الدين المناصرة الذي اهتم بشعره و أنشد أجمل الأشعار في حب الوطن و لكنه مثله لم يحز على الاهتمام الكافي من الإعلام إلا أن النقاد قد اهتموا بهؤلاء الشعراء المغمورين إعلاميا و السبب في ذلك ان النقاد يختلفون عن الإعلاميين فالنقاد يبحثون عن الإبداع و الثقافة أما الإعلاميون فيبحثون عن الإثارة و أسبابها فقد يشتهر شاعر إعلاميا بسبب موقف مخالف لمجتمعه و لكن الناقد لا يكتب عن الشاعر إلا إذا اقتنع بتجربته و فنه و إلتزامه بهموم الأمة و الوطن و هذا ما حصل مع الشعراء المغمورين إعلاميا فقد وجد النقاد فيهم تلك الأصالة و ذلك التجديد فضموهم بكل ارتياح إلى الشعراء المبدعين و هذا ما حصل مع شاعرنا محمد القيسي و غيره من الشعراء مثل عز الدين المناصرة و أحمد دحبور

فهذا الشاعر القيسي شديد على أشعاره يهذبها و إن طال الزمان فتجد نقاطا في قصائده تدل على الحذف و لما بحثنا عن السبب وجدنا الشاعر يجمع أشعاره في مجلدات و ينقحها مع أنه كتبها على امتداد عشرين عاما و أكثر فتجد قصيدة كتبها قبل خمسة عشر عاما مثلا و إذا به يقص منها السطور الشعرية و يضع مكانها النقاط الدالة على الحذف و السبب في هذا الحذف يوضحه الشاعر بكل صراحة فيعترف بأن هذه السطور خالية من القيمة الفنية و هذا يدل على قيام الشاعر بمسؤوليته أمام تجربته و يدل على معرفته بدور الكلمات الخطير بشرط نجاح هذه الكلمات في امتحان الفن الجميل و امتحان المعنى الراقي و امتحان الرسالة الهادفة و يدل كذلك على عدم ضعف الشاعر أمام أشعاره و قد انتصر محمد القيسي أخيرا فأثبت الشعر المقبول فنيا و أقصى الشعر المباشر و التقريري

 

يقول الشاعر في نهاية قصيدته (عن الصمت و الكلمات ):

 

على شفتيّ قد صلبوا حنين الحرف

أهانوا عفّة الكلمة

أرادوا الموت للكلمة

أرادوا الصمت للشاعر

وما حسبوا بأنّ الحرف بحر ما له آخر

وأنّ المجد للشاعر

 

و يظهر هنا جمال الإيحاء فالشاعر يوحي بأن هناك قمعاً للحريات و محاولة دائمة لمنع كشف المخططات يصل إلى درجة التهديد باتهام المتكلم بالتهم المشينة بل و إلى إماتة المتكلم و لكن الشاعر يجزم بأن الدفاع عن الحق بالكلمة سيستمر إلى نهاية الحياة و سيحصل الشاعر على المجد المتمثل بأنه صمد و قاوم و ربما مات في سبيل الحقيقة و الحرية

 

و شاعرنا تعرض للاغتراب فأثقل كاهل شعره و قد لا تنضج التجربة الشعرية إلا بالمعاناة فإذا بك تجد في أشعار القيسي عذوبة و شجناً تشعر بهما و أنت تقرأ ما جادت به قريحته فلا تطغى الرموز على عاطفته و لا تحتاج و أنت تقرأ شعره إلى إعمال فكرك و كأن ما تقرأ مادة جامدة بل تشتبك الفكرة مع العاطفة فتنمو أغصان الحزن و الأمل و المحبة مع أوراق الفكرة التي يود الشاعر أن يوصلها لك

 

يقول الشاعر في قصيدته : ( مكابدة الشوق و الغصة ) :

 

أشتاق أنّ أراك في شوارعي المغبرة

أشتاق، أشتاق يا قبرة

موّالَ حُبّ

ينقذني من الجفاف في حياتي المسوّرة

بالشّوك والأسلاك

أواه يا مدينتي المنوّرة

متى يحين موعدي، متى أراك؟

متى تُذيب غربتي يداك؟

 

و هنا يظهر التعبير بالرمز و الصورة فالشوارع مليئة بالغبرة و ربما كانت في الحقيقة نظيفة و لكنها بعيدة عن الوطن فلا جمال إلا في الوطن و لا حب إلا في الوطن و تكرار كلمة اشتياق فيه تعبير عن حجم الاشتياق الكبير

ثم يبدع الشاعر صورا أخرى مثل الجفاف الذي يدل على و العطش العاطفي و فقدان النضارة و ألم الغربة و مثل الحياة المحاطة بأسوار من الشوك و الأسلاك التي هي عبارة عن آلام الشوق و الشعور بقيد الاحتلال الشديد الذي يمنعه من الذهاب إلى وطنه الحبيب و إلى أهله و أحبابه هناك و ما زال الأمل في القلب قويا فالشاعر ما زال متفائلا بالرجوع فيرسم صورة جميلة و هي أن الوطن بيديه الممتلئتين بحرارة الشوق ستذيبان جليد غربته

 

و القارئ لأشعار القيسي يجد الكثير من الشوق و البكاء و لكنه يجد أيضاً سماوات من الأمل فهو لا يستطيع أن ينكر واقع التشريد و الغربة و النفي من وطنه الأم و لكنه يملأ حياته استبشارا بالمستقبل الواعد الذي سيناله باستمرارية المقاومة و التي عبر عنها بالإصرار تلك الكلمة التي تظهر أن هناك عثرات في طريق الشاعر و لكنه لم يستسلم لها و رايته ستسمر معه في موجهة الريح بعد الممات

 

فكيف أصمّ آذاني وأقعد عن نداء الأرض والشهداء؟

وفي عينيّ إصراري

وشاهدة كتبت حروفها من جرحي الناري

لترفع فوق قبري راية في الريح

فلسطينية أرضي

فلسطينية أرضي

 

و بذكاء المبدع يرسم شاعرنا لوحة رائعة باكية متفائلة مؤطرة بالعزم فتظهر الصور الرائعة فها هي النجمة المظلمة مشرقة بالأمل في وجه الظلام الذي هو مأساة شعب بأكمله و تأتي المفردات الحزينة : هشيم الكلام ، جثتي ، القهقرى و لكن الشاعر ما زال يصر على الأمل على شكل زهرة تعاني في الحريق و لكن الزهرة لا تذبل و تستمر في نشر الأريج و يختم الشاعر بقوله : و أفيق ليؤكد معنى الصمود و القيام مجدد و عدم الوصول إلى حالة اليأس المظلمة يقول شاعرنا

 

شارع يتفرّع من شارع ,

والزحام

نجمة مظلمة

في هشيم الكلام

وأرى جثّتي وأرى

وأنا أبدأ القهقرى

زهرة في الحريق

وأفيق

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى