مقالات

مصر بين نارين: أمانة القضية وواجب السلام

مصر بين نارين: أمانة القضية وواجب السلام
بقلم: هويده عبد العزيز
—————————–
في زمن تختلط فيه الأصوات، الحابل بالنابل وتضيع فيه الحقائق بين صخب الشعارات وتقنيات التشويش، يصبح الموقف الرصين عملة نادرة، والعقلانية ترفًا لا ينشرح له المزاج العام. كلمة واحدة قد تشعل حربًا، وترند عابر قد يُقصف به وجدان وطن. في هذه اللحظة، يُطلب من العاقل أن يخرس، ومن الحكيم أن يتظاهر بالبلادة، ومن صاحب الكلمة أن يغض طرفه عن رحى الحرب الطاحنة في غزة، وكأن ما يحدث هناك لا يقع على هذا الكوكب ولا يعنيه.
وسط هذا الجنون المفرط، يقف الوعي العربي مترنحًا بين تصريحات مستفزة وتلميحات مستترة، وعبارات مشتعلة تسعّر الانقسام بين المذاهب، والتيارات، والولاءات. ولا أحد يكترث لنذر حرب نووية تلوح في الأفق، نار إذا اشتعلت لن تميّز بين مقاوم ومحتل، ولن تفرّق بين أرض تُروى بدم الشهداء وأخرى تُسقى بماء المزايدات..
نحن أمام لحظة مفصلية في تاريخنا، لا تحتمل المزايدة ولا الهتاف، بل تتطلب وعيًا يُدرك أن الدفاع عن فلسطين لا ينفصل عن حماية شعوبنا من فناء شامل قد يأتي على الأخضر واليابس. الغبار النووي – إن تمدد – لن يعترف باتفاقيات ولا حدود، ولن يحترم قوميات ولا هويات. فهل يكون الوفاء لفلسطين بدفعها إلى حتفها، أم بإنقاذها من أن تُستخدم وقودًا في صراع يريد البعض له أن يحرق كل شيء؟
مصر، حين تبادر إلى نزع فتيل التصعيد والأزمة الراهنة ، لا تتخلى عن القضية، بل تؤدي دورها الطبيعي بوصفها دولة محورية ذات تجربة وعمق. لا تساوم، ولا تتاجر، بل تحاول أن تُبقي على جذوة القضية حيّة، بعيدًا عن مقامرة مدمّرة قد تُقبر الحلم الفلسطيني ذاته. موقفها ليس حيادًا، بل انحياز واعٍ إلى العقل والمنطق، ورغبة في حماية شعب شقيق من محرقة محتملة، دون أن تنسى أمانة التاريخ أو وجع القضية.
فلسطين لا تحتاج كارثة كي تُستعاد، بل عقلًا يعرف كيف يُدير الصراع لا يُفجّره، وعدالة تُبنى بالحكمة لا تُشاد فوق الأنقاض. إن الحروب الشاملة لا تنقذ القضايا، بل تدفنها مع أصحابها، وتحوّل الأوطان إلى مقابر جماعية .

ولنا في اليابان، التي ذاقت مرارة السلاح النووي، عبرة. لم تبنِ نهضتها على الحطام، بل على خيار الحياة. واليوم، وهي واحدة من أقوى اقتصادات العالم، تذكّرنا أن الخلاص لا يُولد من فوهة البندقية، بل من وعي يرفض الفناء ويصون الكرامة والحياة .
آن لنا أن نستفيق من غفلتنا، فالقضية ليست شعارًا، بل مسؤولية ووعي. والمزايدة ليست وفاءً، بل خيانة مقنّعة. ولن ننتصر لفلسطين إن نحن دفنّاها تحت ركام الغضب الأعمى والنصرة الزائفة، بل ننتصر لها حين نُبقيها حيّة في الضمير، وفي السياسة، وفي ميزان العدالة الممكنة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى