قراءة و تحليلا أدبيا و فنيا بمنهجية أكاديمية بقلم الناقد الجزائري :ابراهيم ميزي
قراءة و تحليلا أدبيا و فنيا بمنهجية أكاديمية بقلم الناقد الجزائري :ابراهيم ميزي

قراءة و تحليلا أدبيا و فنيا بمنهجية أكاديمية بقلم الناقد الجزائري :ابراهيم ميزي
ابراهيم ميزي
لقصيدة مرافئ الحنين بعنوان: أحبةُ قلبي… أين أنتم؟
———————
مدخل نثري:
قال الأصمعي عندما سُئل: “لماذا الرثاء خيرُ كلامِك؟” أجابهم:”لأنّي أقولُه وقلبي محترق.”
و أجمل الشعر أو النثر هو ما خرج من وجدانٍ موجوع ،،لأنه نابع من حرقة القلب وصدق العاطفة..فكل بيت قيل يذيب الدموع الجامدة، ويلهب الهموم الخامدة.. و يبكي العين العوراء.. لولا أن العين بالدمع والدم انطق من كل لسان وقلم.
في غياب الأحبة تتّسع في القلب مساحات من الفراغ، لا يملؤها ضوء ولا صوت، سوى صدى الذكرى وهمس الشوق. حين نكتب عنهم، لا نرثيهم فقط، بل نرثي جزءًا من أرواحنا التي ارتحلت معهم. في هذه القصيدة، تسكب الشاعرة “مرافئ الحنين” وجع الوداع، وتسترجع مجد الحب حين كان حاضرًا، ملوّحًا بسلطانه، قبل أن ينكسر الموج على شواطئ الفقد.
الفراق حديثه الصمت و لسانه الدموع لا ندرى أنبكى عليهم أم نبكى على أنفسنا.
لولا مرارة فراق الحبيب وفقده..وحرقة الإشتياق و دمعه ؛ ما قال يعقوب و يا آسفاه على يوسف..!
– هيكل القصيدة:
أحبةُ قلبي… أين أنتم؟
أحبةَ قلبي… سألوا الفؤادَ فأعتذرْ
هيهاتَ! أينَ مضى أولئك الفُرسانِ؟
تاللهِ، إنّ النياطَ تمزّقتْ
وصحوتُ، هشّمتُ، في ذكراكمُ إخواني
تلكَ الديارُ، وما عادتْ تليقُ بنا
منذ افترقتَـم، وغابتْ عنـكمُ أحنـاني
شوقي إليكمْ ما اكتفى برثائكمْ
فالدمعُ أضنى لهفتي وكياني
أحبابَ قلبي، قد جفوني للأبدْ
من غيرِهمْ لا يزدهـي أجفاني
كنتُ العزيزةَ، والمكرّمةَ بهمْ
محبوبةً… سلطانةَ الأزمانِ
حمامةً طَلْقَ الجَناحِ بقصرها
وحراسُها من زينةِ الغِزلانِ
تزهو الحياةُ بحبّهمْ، فإذا أتوا
سكنتْ رياضُ الوصلِ والألحانِ
واليومَ، أُدعى اليتيمَ بغرامِهمْ
فعذرًا حبيبي..إن عثرتُ بوزنِ ألحاني.
بقلم مرافئ الحنين
—————————–
المقدمة :
في مملكةٍ من نورٍ وندى، كانت الأرواح تتعانق كما الفراشات حول نبعٍ من المودّة، وكانت القلوب تهتدي بنجوم الرفاق الذين لا يغيبون… حتى جاء يومٌ انكسر فيه السحر، وتفرّقت أجنحة العشق على مفترقات الزمن، فصارت الذاكرة مزارًا للراحلين، والشوق مَلِكًا يحكم مرافئ القلب دون عرشٍ أو جنود .
في هذه الخرافة التي نسجها الألم بخيوط الذهب والحنين، تقف “مرافئ الحنين” على ضفاف الفقد، تنادي بأوجاعها من غيّبهم القدر، فتستحضر ماضيها الملوكي المترف بحبّهم، وتناجي أطيافهم كما تُناجى الأرواح في ليالٍ لا قمر فيها.
هي ليست مجرد قصيدة… بل أنين حمامةٍ فقدت أسرابها، وبكاء قصرٍ تهدّم من صمت زوّاره، وسردٌ شعريّ لسيدةٍ كانت سلطانة الوداد، فغدت يتيمة المشاعر، تجول بين أطلال الدفء تبحث عن ظلّهم، ولا تجد سوى رجع الذكرى وارتجاف الأغاني.
________________
القصيدة التي بين أيدينا، “أحبة قلبي… أين أنتم؟” بقلم مرافئ الحنين، تُعد نموذجًا وجدانيًا مميزًا في شعر الرثاء والحنين، وقد جاءت بلغة شاعرية غنية بالعاطفة والأسى، تخاطب فيها الشاعرة مَن غابوا عن حياتها، بأسلوب شعري كلاسيكي يمزج بين الفقد والاعتزاز بالماضي. إليك تحليلًا أدبيًا وفنيًا لها بمنهجية أكاديمية:
أولاً: التحليل الموضوعي:
1. الموضوع والمضمون:
الموضوع المركزي للقصيدة هو الحنين والرثاء، حيث تعبّر الشاعرة عن شوقها الجارف لأحبتها الذين غادروا، ويبدو أنهم إما فارقوا الحياة أو ابتعدوا عنها بشكل نهائي. وقد مزجت بين رثاء الذات ورثاء الأحبة في صورة وجدانية مكثفة، تُفصح عن ألم داخلي يتعاظم مع الذكرى والفقد.
2. الأبعاد النفسية:
النص يعكس حالة اكتئاب وجداني، وتمزق داخلي، وحرمان من السند العاطفي. يتجلى ذلك في قولها:
“تاللهِ، إنّ النياطَ تمزّقتْ
وصحوتُ، هشّمتُ، في ذكراكمُ إخواني”
هذه الصورة الحسية الدامية للنياط (عرى القلب) تكشف عمق الألم.
3. البعد الاجتماعي:
القصيدة تُلمّح أيضًا إلى فقدان المكانة الاجتماعية التي كانت تحظى بها الشاعرة بوجود هؤلاء الأحبة:
“كنتُ العزيزةَ، والمكرّمةَ بهمْ
محبوبةً… سلطانةَ الأزمانِ”
هنا حضور قوي لتلاشي الحصانة العاطفية والاجتماعية بعد الغياب، وكأن الكيان الشخصي كان قائمًا عليهم.
ثانيًا: التحليل الفني
1. اللغة والأسلوب:
جاءت اللغة عالية النبرة، مليئة بالعاطفة، وتحمل طابعًا تقليديًا من حيث التراكيب والصور البلاغية. استخدمت الشاعرة ألفاظًا من حقل الحزن والفقد مثل: تمزّقت، أضنى، جفوني، يتيم، اعتذر…
2. الصور البلاغية:
الصورة الشعرية جاءت جزلة وقوية، مثل:
“النياط تمزّقت”: استعارة دالة على عمق الألم.
“حمامة طلق الجناح”: استعارة لذات الشاعرة في حالتها السابقة من العز والحرية.
“تزهو الحياة بحبهم”: تجسيد شعوري للحياة ككائن يتفاعل مع الحب والغياب.
3. الموسيقى والإيقاع:
التزمت القصيدة بالوزن التقليدي، ويبدو أنها مبنية على بحر الكامل، رغم بعض الاختلالات العرضية في الوزن في نهاية القصيدة:
“فعذرًا حبيبي..إن عثرتُ بوزنِ ألحاني”
هذا البيت يُمكن قراءته كتداخل فني بين المعنى الواقعي والميتاشعري (إدراك الشاعرة لتعثّر الوزن كدلالة على الاضطراب النفسي)، وقد يكون مقصودًا فنّيًا.
القافية الموحدة بـ”ـاني” تعزز من الإيقاع العاطفي، وتُضفي نوعًا من التكرار الموسيقي الذي يناسب طابع الرثاء.
4. البنية الدرامية:
القصيدة اتبعت منحًى تصاعديًا:
البداية: نداء واستفهام (أين أنتم؟).
الوسط: استحضار الماضي المجيد، والمكانة العالية بوجود الأحبة.
النهاية: الانهيار والخذلان والعذر الشعري.
ثالثًا: المنهجية الجمالية والدلالية
التناص: يظهر تناص ضمني مع الموروث العربي في صور الرثاء والشكوى (كالمعلقات)، مع لمحة وجدانية معاصرة.
الرمزية: الحمامة، القصر، الغزلان، الرياض… كلها رموز لحياة الحُب والجمال التي تهاوت بفعل الغياب.
رابعًا: الخاتمة والتقييم العام
القصيدة تحمل طابعًا وجدانيًا شفيفًا، وتُحسن استخدام الصورة واللغة لبناء مناخ شعري عاطفي متماسك. ورغم وجود خلل طفيف في الوزن ببيت أو اثنين، إلا أن النص يحافظ على بُنية عاطفية قوية، تُعبّر عن تجربة إنسانية صادقة وصوت أنثوي رقيق يمزج بين الحب والفقد والعزة.
وتبقى قصائد رثاء الإخوة بعاطفتها المشبوبة قلائد مرصعة يزين بها أدبنا العربي جيده، ويلبسها لنحر الزمن الخالد، وستبقى قوافي شعر الرثاء هتانة بالدمع والمآسي، ومفعمة بالعويل، ومترعة بالزفرات ومثقلة بالحسرات..والفجيعة إذا لم تحارب بجيش من البكاء، ولم يخفف من أثقالها بالنشيج والاشتكاء تضاعف داؤها، وزادت أعياؤها، وعز وأعوز دواؤها.
اللهم ارحم موتانا و موتى المسلمين.
بقلمي الناقد:ابراهيم ميزي.
17/06/2025