الدخان الذي لا يتلاشى بقلم: (محمود سعيد برغش)
الدخان الذي لا يتلاشى بقلم: (محمود سعيد برغش)

الدخان الذي لا يتلاشى
بقلم: (محمود سعيد برغش)
الفصل الأول: الدخان الأول
جلس “آدم” على الكرسي الخشبي المعتاد في المقهى، واضعًا ساقًا فوق الأخرى، بينما ينفث دخان الشيشة ببطء، يراقب تصاعده في الهواء قبل أن يتلاشى. كان هذا المشهد يختصر حياته كلها… أشياء تبدأ ثم تختفي بلا أثر.
في جيب سترته، اهتز الهاتف. أخرجه ونظر إلى الشاشة، اسم “نورا” يلمع أمامه، لكنه لم يرد. أعاده إلى جيبه وأخذ نفسًا آخر من الشيشة.
لم يكن مستعدًا لمواجهة صوتها الآن. لم يكن مستعدًا لمواجهة أي شيء.
عاد إلى المنزل بعد منتصف الليل، فتح الباب ببطء، وكأنه يخشى أن يُحدث ضوضاء توقظ الأشباح النائمة داخله. كانت الأنوار مطفأة، والصالة غارقة في ظلام خفيف.
على الطاولة، طبق فارغ وكوب شاي لم يُشرب. رسالة صامتة تقول: “رجعت متأخر كعادتك، ولا حاجة جديدة هنا.”
دخل غرفته دون أن يبدّل ملابسه، ألقى بجسده على السرير، وحدّق في السقف. كان السكون قاتلًا، لكنه فضّله على صوت الجدال.
الفصل الثاني: الصدام الأول
في الصباح، كان الجو مشحونًا منذ اللحظة الأولى. جلست “نورا” أمامه على طاولة الإفطار، تحتسي قهوتها بلا اهتمام، ثم قالت دون أن تنظر إليه:
“مش ناوي تتكلم؟”
أخذ نفسًا عميقًا وقال ببرود: “نتكلم عن إيه؟”
“عن اللي إحنا فيه… عن كونك بتتجنبني، عن البيت اللي بقى مجرد فندق بالنسبالك.”
ابتسم بسخرية وقال: “وأنتِ شايفة نفسك ما ليكي دور في ده؟”
ضربت الملعقة على الطاولة بعصبية: “المشكلة فيا؟ دايمًا أنا الغلطانة؟”
“أنا ما قلتش كده، بس يمكن لو كل واحد فينا شاف نصيبه من المشكلة بدل ما يرميها على التاني، الأمور تتحل.”
ضحكت بمرارة وقالت: “اللي زيك ما بيتغيرش، بيهرب بس.”
وقف فجأة، دفع الكرسي للوراء وقال بنبرة منخفضة لكنها حادة: “أنا ما بهربش، أنا بس مش قادر أكون هنا.”
غادر المنزل، وأغلق الباب خلفه بقوة، وكأنما أراد أن يُسكت كل شيء.
الفصل الثالث: الإخوة لا يختفون
في طريقه للعمل، تلقى رسالة من أخيه “طارق”:
“عايزك ضروري، قابلني بعد الشغل.”
منذ شهور لم يتحدثا. منذ المشكلة التي جعلت “طارق” يقطع الاتصال به تمامًا. ضغط على الهاتف بين أصابعه، ثم كتب ردًا قصيرًا: “متى وأين؟”
في تلك الليلة، لم يذهب إلى المقهى، لم يشعل الشيشة. ذهب لمقابلة أخيه، وهناك… بدأ شيء جديد، أو ربما انتهى شيء قديم.
جلس طارق أمامه وقال بصوت منخفض: “ليه جيت؟”
نظر آدم إليه، تأمل ملامحه التي تغيرت قليلًا بفعل الزمن، ثم قال: “إنت اللي طلبت تقابلني.”
أشاح طارق بوجهه للحظة، كأنه يهرب من الإجابة، ثم قال: “أنا طلبتك عشان أقولك حاجة… اللي بيني وبينك ما ينفعش يفضل كده.”
“يعني؟”
“يعني عاوز أفهم، عاوز أعرف… ليه دايمًا بتحسسني إنك مش مهتم؟ مش بس بيا… بالعيلة كلها؟”
تنهد آدم، شعر أن الكلام يثقل على صدره، لكنه قال بصراحة: “مش بعدم اهتمام، بس… يمكن خلاص فقدت الطاقة إني أكون الشخص اللي الكل متوقعه.”
“ده مش مبرر إنك تبعد عن اللي يحبك.”
“وأنا؟ مين اللي وقف جنبي لما كنت محتاج؟”
ساد الصمت. كان لدى كل منهما أسبابه، وأوجاعه. لكن الحقيقة التي لا يمكن إنكارها… أن الدم لا يصبح ماءً.
الفصل الرابع: الحب الذي لم يعد كما كان
عادت نورا إلى المنزل في وقت متأخر، وجدت آدم جالسًا في الصالة، يشرب كوبًا من الشاي. نظرت إليه، لكنه لم يلتفت إليها.
“مش ناوي تنام؟”
“لسه شويه.”
“مش ناوي تتكلم؟”
نظر إليها أخيرًا، ولأول مرة منذ فترة، رآها بوضوح… رآها كامرأة مجهدة، مرهقة، تحاول أن تبقى قوية لكنها بالكاد تستطيع.
“إنتِ تعبتِ، وأنا كمان.”
تنهدت وقالت: “وأنا لسه بحبك رغم كل اللي بينّا.”
“وأنا مش متأكد إني لسه بحبك زي الأول.”
كانت هذه الجملة كافية لتمزيق كل شيء بينهما…
الفصل الخامس: الانفجار
الجدالات أصبحت متكررة. الكلمات الجارحة حلت محل العتاب. حتى الأبناء لاحظوا التوتر في المنزل.
في أحد الأيام، بعد خلاف حاد، قالت نورا بغضب: “إنت ما بقيتش الشخص اللي اتجوزته، ما بقيتش تعرف تحب، بقيت مجرد دخان بيتلاشى.”
نظر إليها آدم وقال ببرود: “وإنتِ ما بقيتيش الشخص اللي كنتِ بتدّعيه… أنا هسيب البيت.”
لم ترد. لم تبكِ. فقط وقفت تنظر إليه وهو يخرج من الباب.
الفصل السادس: بداية النهاية
جلس آدم في شقته الجديدة، وحيدًا. لم يكن هناك صراخ، ولا جدالات… لكنه أيضًا لم يكن هناك دفء.
التقى طارق مجددًا، هذه المرة دون مشاحنات. قال له طارق: “الهروب مش حل.”
“ومين قال إني بهرب؟”
“لأنك لو كنت عايز تعيش بجد، كنت هتحارب بدل ما تستسلم.”
لكن السؤال الأهم… هل كان آدم مستعدًا ليحارب من أجل شيء لم يعد متأكدًا من رغبته فيه؟
الفصل الأخير: الدخان الذي لا يتلاشى
في أحد الأيام، تلقى آدم اتصالًا… ابنته كانت تبكي:
“بابا… ماما تعبانة.”
عاد آدم إلى المنزل الذي هرب منه. وجد نورا مريضة، الإرهاق نال منها أخيرًا. جلس بجوارها، أمسك يدها. لأول مرة منذ فترة، لم تكن هناك كلمات جارحة بينهما.
“لسه بتحبيني؟” سألها بصوت متردد.
نظرت إليه بعينيها المتعبة وقالت: “الحب مش بيتلاشى… حتى لو تحول لدخان.”
كانت هذه الليلة مختلفة… لم يهرب آدم، ولم تتجاهله نورا. فقط جلسا، يتأملان حياتهما… وما تبقى منها.