مقالات

الفنان الأضحوكة

الفنان الأضحوكة

الفنان الأضحوكة

بقلم . حمزة الياسين

استيقظ “ف.. ” الفنان التشكيلي ذو الآراء الحادة اللاذعة عن الفن، والمتطرف في إيمانه بفكرة الفرادة، إلى الحد الذي يجعله يحسب نفسه التمثيل الوحيد الحقيقي للفكرة..
إنه وحده صاحب الأفكار الفنية الأصيلة، ووحده الذي ينهل من بحر أفكاره وعوالمه الجوانية العميقة الخاصة. وحده الذي يملك أفكارا حقا، وصاحب الخطوط المحسوبة المدروسة في أصغر تفصيلاتها.
إنه باختصار “حسب إيمانه ” الفنان الحقيقي الوحيد المتواجد في الكون، بل إن الكون لم يعرف قبله فنانا حقيقيا.
إن هذا الكون “التافه” مدين له ، وينبغي عليه أن يركع ويصلي ويفتخر أنه استطاع أخيرا أن يفكر بفنان من طرازه.
سحب جسده، ونظر إلى لوحة مستغرقا التفكير بها… إن هذه اللوحة، التي تتكون من تمازجات بقع زرقاء وحمراء يتهيأ للناظر إليها أنها تحاول تشكيل جمجمة طفل، وفوقها بقعة سوداء داكنة تشبه شاربا كثا، ومن البقعة يمتد خيط أسود ليطوق “الجمجمة ” وخط آخر يطوق النهاية العلوية لضربات خضراء متمايلة ،تحاول تشكيل جذع امرأة بثديين ضخمين.. وكل ذلك ضمن خلفية رمادية كئيبة.
إن هذه اللوحة بدت له في الليلة الماضية ناقصة.. ثمة ضربة ريشة دقيقة واحدة تنقص؛ لتعبر اللوحة عن كل الأفكار الخلاقة التي تجول في ذهنه.
لقد تعذب طوال الليل وهو يحدق فيها يائسا، مستجديا إيجاد المكان المناسب للضربة وشكلها.
“أجل، أجل.. لقد وجدتها ” صرخ متحمسا حماسا محموما ، ونهض عن سريره مثل ممسوس ، واتجه إلى لوحته..أمسك ريشته و ابتسم معجبا بدهائه: “إنني لفنان حقا! ” قال هازا رأسه:”ليست ضربة ريشة ما تنقص اللوحة ، إنما بضع نقاط فحسب.. نقطتين حمراوين بالتحديد”
غمس ريشته في اللون الأحمر القاني.. وضع نقطة على ” الشارب ” :”أجل، أجل.. يا الروعة! ”
فكر قليلا .. وضع نقطة أخرى تحته… تراجع إلى الوراء خطوة.. صارت رؤيته للوحة شاملة الآن :”أوووه.. إنها مثالية بالكامل.. يال الدقة والروعة! ”
ثم هاهو ذا يترك ريشته .. يشعل سيجارة كمكافأة له على براعته، ويجلس على سريره مفتتنا، مرح المزاج، يسحب أنفاسا عميقة، شرهة ، ويتبسم مزهوا.

بعد قليل من الوقت، أشعل صاحبنا “ف.. “حاسبه المحمول، وسجل دخوله على حساب “الفيسبوك” الخاص به.. فكر لبرهة بتصوير لوحته، ونشرها، لكنه سرعان ما عدل عن فكرته محتقرا: “إن البشر ليسوا أهلا لفهم ما أرسمه بعد ”
بدأ يقلب بين الصفحات بدون اكتراث ، وجعل إصبعه ينزلق إلى الأسفل بنزق ، مهملا قراءة أي شيء ، ولا يتنازل أن يتأمل صورة أو لوحة واحدة ؛ فليس ثمة لدى البشر ما هو أهل لإثارة اهتمامه بعد..
و فيما هو كذلك، إذا به يرى لوحة بسيطة جدا ، تتألف من بضع خطوط سوداء ، على خلفية بيضاء بالكامل، ترقص برشاقة ، وتشكل في مجموعها جذع إمرأة عار ، بصدر نافر، وورك ممتلئ… كان ما لفت انتباهه أن اللوحة قد لاقت تفاعلا كبيرا، وكان ما جذبه إليها بالذات، تعليق بارز يشيد بالعبقرية الفنية التي تتجلى في بساطة هذه اللوحة، وكيف أن الفنان قد استطاع أن يخلق من خطوط قد تبدو عشوائية أعمق الأفكار وأجملها.
أصيب صاحبنا بحنق محموم خانق، واغتاظ كأن جحيما تمور داخله ، و كأنه وجد في هذه الكلمات إهانة توجه إليه بالذات ، و بشكل مباشر :
“لا أفهم أين يمكن أن توجد قيمة في عمل ” فني ” لم يستغرق خلقه دقيقة واحدة .. ليست اللوحة هذه أكثر من قطعة قمامة .. إنها التعبير المباشر عن الانحطاط والرداءة الفنية فحسب. ”
كتب ذلك، و كبس زر نشر التعليق..
فجر تعليقه استياء محموما، وسرعان ما انهالت التعليقات ،مثل الرصاص، مهاجمة إياه.. كان تعليقه بمثابة إطلاق الرصاصة الأولى في خط جبهة. و كما يقال في المثل الدارج “حين تقع البقرة..”
كانت الهجمات، في المجمل، تنصب على وصفه بالإنسان الغيور الرديء، و أنه إنما يحاول، من خلال كلامه هذا، إثارة الاهتمام والانتباه حوله ، وأن سبب كلامه، في الحقيقة، يرجع إلى حسد وحقد مرضي؛ لأن العمل قد لاقى من التفاعل والإعجاب ما لا تلقاه أعماله..
بينما تطرق أحدهم إلى الأمر من ناحية فنية وتجنب مهاجمة شخصه، مستشهدا بكلمات لبيكاسو :
“لقد كانت لوحة منجزة في لحظة؛ ولكنها لحظة حملت خبرة حياة كاملة”
وتحداه آخر أن يستطيع هو ذاته أن يخترع رسما مشابها.
ونوه ثالث إلى أن اللوحة متشكلة من أحرف كلمة عربية، وأنه ؛ رغم كونه عربيا؛ لا يستطيع قراءتها..
لم يستسلم صاحبنا لكل ذلك، بل لقد كان يرد الصاع عشرا، ويهاجم الجميع بدون استثناء..
يسخر، ويتحدى، ولا يتورع عن أن يحقر بيكاسو ذاته.. بل لقد ذهب إلى أسوء من ذلك، فلقد كشف عن غرائز عنصرية بإظهاره احتقارا أكبر للعمل بعد أن أشير إلى أنه عربي :” لقد أشير إلى أن العمل عربي… لذاااااا! ”
وصار يصور بعض أعماله وينشرها في التعليقات متهكما، ومتفاخرا بالوقت الطويل الذي قضاه في إنجاز كل واحدة منها..
ولكن اللوحات “التي كانت عميقة وجميلة والحق يقال ” لم تستطع أن تشفع له.. وكان كلما تكلم ونشر لوحات أكثر، كلما صنع من نفسه أضحوكة أكثر، وأثار السخط والاستهزاء، وفي أحسن الأحوال، الشفقة عليه.
لقد صنع من نفسه عدوا للجميع، وكان يستلذ بذلك كله.. كانت كل كلمة احتقار أو استهزاء توجه إليه تملؤه غبطة؛ وكأن في ذلك تأكيدا وترسيخا لحقيقته الخالدة :
(إنه وحده الفنان الحقيقي، ووحده الذي يتمتع بالكيان المتفرد الأصيل ! )

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى