بلغتِ القلوب الحناجِر بقلم / زهراء محمّد حيدر

بلغتِ القلوب الحناجِر
زهراء محمّد حيدر
لا أدري كيفَ يقتضي أنْ أستهلَّ نصًّا أكتبُه بماءِ عروقِي لا بحبرِ قلمِي، ولا أدري من أيِّ وجهةٍ أنطلق، ولا حتّى بأيِّ لغةٍ سأدوّن.
فلا لغة تنصِفُ منارةَ الشَّرائعِ، ولا كلام يُرثي ملائكةَ الحروبِ، ولو كانَ هيامِي بأرضِ الأنبياءِ يُكتب؛ لانتهى حِبرُ قلمي، فأنا القادرةُ على أنْ أكُفَّ عن كلِّ شيءٍ إلّا عن التّفكيرِ بوطنٍ سكنَني ولَم أسكنه، وزُرِعَ حبُّه بفؤادي متأصّلًا كأشجارِ الزَّيتونِ لدرجةِ أنَّني أكادُ أجزمُ بأنَّ الجنَّةَ الكائنةَ بين أضلُعي نُقِشَتْ على شكلِ علمِ القلبِ النَّابضِ بالعروبةِ.
لكنّ فؤادي يكادُ ينخلعُ من هولِ ما يرى، ولولا الإيمان لهلكَ حقًّا.
نحنُ هنا نحظى برفاهيّةِ الاحتراقِ النّفسيّ من خلفِ الشّاشات، فما حالُ من يتلظّى بالقصفِ ويموتُ جوعًا ويتكمّدُ بالخذلان؟!
يكفيهم ذاكَ الّذي يُفقدهم كلَّ شيءٍ حتّى حواسهم، تاللَّه إنَّ النّزوحَ لا يُطيقه بشرٌ.
تخيَّل أنْ تحملَ كلَّ ذكرياتِك، أحلامكَ، روحكَ المُنهكة بحقيبةٍ واحدةٍ وتمضي من مكانٍ إلى مكانٍ حتّى أجلٍ غير مُسمّى.
تُودِّعُ أماكنَ لتستقبلَ أماكنَ أُخرى، وأنتَ كلُّكَ يقينٌ أنَّك ستودّعها أيضًا.
وتكتملُ السّلسلةُ بوداعٍ، وفراقٍ وتشييعٍ إلى أنْ تفارقَ روحك جسدك، وتُشيَّع.
يصرخُ كلُّ طفلٍ منهم بكلِّ كيانه،
صرخةً تُفتّتُ الحُجب عن وجوهِ التَّخاذلِ وتعيدُ تفسيرَ الإنسانيّةِ الّتي تدحضُ على عتباتِ السِّياسة.
صرخةٌ تُدمي قلوبَ مَن لم تتكلّسْ أحاسيسهم بعد.
يهتفُ مُطالبًا بمَن لبثَ في حجرها تسعةَ أشهر.
لم يطالبْ بقوتٍ ولا بماءٍ رغمَ انقطاعِه لأشهر، ولم يطالبْ حتّى بملجأٍ يأويه، فلا ماءَ يروي ظمأهُ لحنانِ حلوة اللّبن، ولا ملاذَ مُستراح گكنف ربّ أسرته، ولا طعامَ يسدُّ سغبَ روحهِ للأمان، ولا شيء يخفّف وطأةَ الحزنِ عن فؤادِه الصَّغير.
باللَّه عليكم أيّ طفولةٍ هذه؟
أليست الطُّفولة صفحةً بيضاء؟! لماذا لُطّخَت بالدَّم باكرًا؟!
ما ذنب الصّفحات الّتي تمزّقت مرغمةً، وما ذنبُ الكتابِ الّذي بُعثِرت حروفه؟!
كيف لهم أنْ ينتشلوا بقايا أحلامِهم من بين هذا الرُّكام؟
شتّان بين أنْ يُلملمَ الطّفلُ ألعابهُ المتناثرة وبين أن يلملمَ أشلاء أحبّته.
بين أنْ يجمعَ بعض الصُّور التّذكاريّة، وبين أنْ يعانقَ من فيها على أرضِ الواقع.
هل هناك أصعب من أنْ تكونَ مُسعفاً، وتكتشفُ أنَّك تنقلُ جثمانَ من ربّتك ؟!
وملاكاً أبيضَ يُبرّئ ما تبقّى من جسدِ طفله؟!
هل هناك أقسى من أنْ تكونَ طفلاً يتأمّلُ أمّه خلسةً من ثغرةٍ من كيسِ جيفها؟!
وأنْ يغلُبَك النّعاس أثناءَ ترقبِّك لقوتٍ يُسكت صريرَ معدتك.
باللّه عليكم كفاكم حديثًا عن الطّفولة والشّباب، ففي فلسطين يذبلُ الأطفالُ بعمرِ الزّهور.
لكن لا بأسَ عليهم فهم ملائكة الحروب سيحيونَ من جديدٍ في جنانِ اللَّه الواسعة.
أمّا الويلُ فهو لمَن سفكَ الدّم بوحشيّةٍ، فالتّاريخُ لنْ يرحم، والعدالةُ لن تغفرَ، وسيبقى صوتُ فلسطين شاهدًا عليهم إلى الأبد، لكن لا يمكننا أن نلومَهم، فالّذين يلقّبونَ بإخواننا العرب يُشاهدونَ الضّيم بصمتٍ مُظلمٍ ولا يكترثونَ لذلك وكأنَّه مشهدٌ من أفلامِ هوليود.
فليس الويلُ للفاعلِ فقط، بل ويلٌ للمُشارك و للشّامت، ولكلِّ قابلٍ راضٍ، وويلٌ للسَّاكت.
لو أفاقتْ أمّةُ خيرِ الأنبياء من غفلتِهم هذهِ لما بقيت فلسطين تواجه الحروبَ حتّى الآن.
أتعلم ما أصعب محطةٍ مررت بها في قطار حياتي؟
أنّني متجمّدَةٌ في مكانِ المُستمعِ والمشاهدِ غير قادرةٍ على المبادرةِ بخطوةٍ واحدةٍ
كالأفلامِ السّينمائيّة تقريبًا، قادرة على التّعاطفِ والدّعاء بأنْ تأتي النّهايةُ على مقاسِ رغباتي وبأقربِ وقت.
ومع ذلك لن أصمتَ، ولن أسمحَ بأنْ يكونَ قلمي شاهدًا صامتًا على ما يحدث، فالكتابةُ هي المعركةُ الوحيدةُ الّتي أملكها،
وأنا على يقينٍ تامّ بأنّ رغم كلّ الظّلام الّذي نشاهدهُ في فيلم الحرب نهايتَه ستكون عادلةً حتمًا، لأنّ اللّه بعظمتهِ هو مَن خطّط لها بدقّةٍ، ووعدُ اللّه لا يتبدّل أبدًا.
ربّما لم يأذنْ اللّه بالمعجزاتِ بعد، لكنّنا منتظرونَ موعدَ نهايةِ هذه الحربِ اللّعينةِ، موعودونَ بالنَّصر وبعودةِ الأرضِ لأصحابِها، موعودونَ بتلكَ المُعجزةِ الّتي سيخرُّ لها العالمينَ سُجدًا.
بنصّي المتواضعِ هذا أنفّذُ وصيّةَ د.أدهم شرقاوي
فإن توقّفت النَّاس لن أتوقّفَ، وإن فتُرَ النّاس لن أفترَ.
سأظلُّ أكتبُ أبدَ العمرِ عن فلسطين، وكأنّني الوحيدة الّتي توثّقُ دماءَ أهلها، وأؤمنُ أنَّ حروفي يمكنها أن تسقطَ صمت العالم.
سأبكيهم دائمًا كأنّني لو لم أبكِ لن يقامَ لهم مأتم.
سأداومُ على أن أُريَ اللَّه عذري، فكلُّ إنسانٍ لا يبذلُ ما بوسعهِ؛ خذلهم.
وإن خذلهم العالم أجمع، فاللّه لن يخذلَهم.
كلّي ثقةٌ أنّهم سيعودونَ يومًا، حاملينَ حقائبهم الّتي ثقّلتها الذّكريات، سيسيرونَ بين بساتينِ الزّيتون، سيُقبّلون أرضَهم، وسيزرعونَ من دموعِهم أنهار حياةٍ جديدةٍ، سنصلّي جمعًا في الأقصى، وستُكتَب فصولٌ جديدةٌ للكرامة، لأنّ الشّمس لا تغيب عن وعدِ اللّه أبدًا.