شعر و ادب

قراءة نقدية في النصّ المسرحي ” أنا المعريّ رهين المحابس “

قراءة نقدية في النصّ المسرحي " أنا المعريّ رهين المحابس "

قراءة نقدية في النصّ المسرحي ” أنا المعريّ رهين المحابس “

بقلم . وليدة عنتابي

يبقى التّراث تلك التركة العامرة بخبرات السلف ذخيرة تفيض بالإيحاء والإلهام في حركة تحديثية مولّدة لدوائر إبداعية تتواصل بكلّ ما مضى لتضفي من جديدها إضافتها المغايرة بعد ما تناولته وهضمته وتمثّلته من مخزون فكريّ ومعرفيّ, مخرجة له خرجاً جديداً فيه من الماضي أصالته ومن الحاضر استشرافه ونبوءته .
ويبقى المسرح ذلك الأب المستوعب لكافة أشكال الفكر والثقافة من أدب وعلم وفنّ أجدر بإيلائه أهمية بالغة لما له من تأثير و دور في استقطاب العقول والنّفوس وتحريكها وتغييرها . و يعتبر النّص المسرحي الذي أنتجه الأستاذ سميرعدنان المطرود باسم : أنا المعريّ رهين المحابس , والذي قدّمه على شكل مينو دراما أي مسرحية الممثل الوحيد , ملخصاً سلساً ممتعاً لسيرة المعرّيّ ولسمات أدبه ومعتقداته وفلسفته من خلال تكثيف لا يحتمل التفاصيل التي تذهب بتشعباتها العديدة بعيداً عن روح المسرح .
وممّا يشفع لأمثال هذه النّصوص التي لايمكن مسرحتها دون إعداد حوار ملائم يمكّنها من التجسّد على خشبة المسرح , أو إعادة إنتاجها لتناسب تقنيات وطقوس المسرح بشكل مقنع ومُرْضٍ , ولا أظنّ في الغالب الأعمّ إلّا أنها كتبت لإنتاج المتعة الفكرية لا لتسويقها كعمل مسرحيّ , هذه المتعة الفكرية التي لا تخلو منها القصيدة الجيّدة والنّص النثريّ الجميل أو القصّة المحكمة , أو الرّواية المشيّدة المستقطبة لمحاورها في حنكة ودراية .

إذ أنّ الحوار عنصر أساسي في النّص المسرحي فلا يقوم مسرح على نصّ مسرحيّ أشبه بالدراسة المطولة على لسان شخصية وحيدة هي البطل الوحيد , فلا بدّ من أطراف تتبادل هذا الحوار بشخصيات مختلفة وأفكار متباينة لتنتج دراميتها في سياق يستولي على انتباه المشاهد فيتفاعل معه وكأنّه إحدى تلك الشخصيات , فمن المرهق والمملّ للممثل والمشاهد على السّواء تلك الجدّية المفرطة في الطرح القائم على مستوى عال من التجريد الفكريّ , أن يقوم الممثل وحيداً بتجسيد نصّ يعتمد عليه وحده في بناء عمل مسرحيّ متكامل ومقنع وممتع بذات الوقت وهذا ما أكّده الأستاذ سمير في (استهلال لابدّ منه ) , صدّر فيه نصّه المسرحي المفتوح كما وصفه قائلاً : أرى تقديم هذا النّص بشكله الآنف إنّما هو من القسوة ما يجعل كميّة الغربة كبيرة بينه وبين المتلقي , باعتباره الطرف المرسل .. نظراً لما يحمل من كثافة في الأفكار ضمن ثناياه ..
وهنا أقترح أن يتمّ المزج بين أكثر من فنّ كالسينما والمسرح وحتى الرقص التعبيري في قالب واحد ضمن رؤية إخراجية يتم الاتفاق عليها مع المخرج حتى لا نغتال المعري في قبره وعلمه .

وقد جهد المؤلف في استحضار فكر المعرّيّ من خلال استنطاق شخصه الذي جسّده على خشبة المسرح بلغته هو ولغة أهل زمانه غير أنّ بعض عباراته التي وردت على لسان المعريّ بلغة عصريّة ابتعدت به عن عصره الذي خلق فيه ,وتمّ به إنتاج هذه التركة الفكرية العملاقة , فكان من شأن تلك المصطلحات المعاصرة أن خفضت من قناعتنا بأنّ المتحدّث هو المعرّيّ بالذات وليس الكاتب المتخفي وراء النّص , والمترائي بلغته العصرية جليّاً مستنطقاً المعرّيّ , مستطلعاً مكنونه , وشرح ما استغلق على المحلّلين والنّقاد والمفسّرين لجملة تركته الفكريّة من أدب وفلسفة , وأورد هنا بعضاً من تلك العبارات العصرية على سبيل المثال ( منتوجها الفكريّ _ المنظومة الفكريّة _ إنّ إمامة العقل تكمن في التوفيق بين الصرامة في طاعته وبين إعمال الخيال كأداة معرفية في إبداعاته . __ المجال السردي _ السرد داخل النّص _ سارد من الخلف -_تأطير المجال السردي – لقد تعاملت مع حرية العقل إزاء سلطة النّص – أعطيت العقل بعداً عقدياً , نصيّ العلائيّ – الأنساق الضديّة –النّص التداولي – التفكيكيّة .. إلخ….,

غير أنّه لم يتدخّل كمتناول للتراث بما له وما عليه , مضيفاً إليه إضافة شخصية ترينا ما لم يره الآخرون , بما هضمه من هذا الفكر العملاق وبما تمثّله منه , ليخرج علينا بتلك الإضافة المدهشة التي تجعل المعرّيّ وجهاً لوجه أمام جمهور مختلف الشّرائح والمستويات الثقافية مفهوماً من الجميع ومقنعاً للجميع برؤية واضحة لا تحتمل اللّبس والتأويل , بل إنّه طلب من المتلقيّ أن يبذل قصارى الجهد مكرّراً معيداً ليستطيع الفهم وليقف على سرّه فيقول : وسأكلّف القارئ غير الملول وغير المتعجّل أن يكرّر قراءته ليفهم عنّي حتى ولو وصل إلى الملل .

قد يكون من الجائز أن يحظى هذا النّص المرتفع الكثافة ببعض التبسيط والتسلسل في طرح ما يريده المؤلّف من وراء تلك الشخصيّة الفريدة في تاريخ الأدب والفلسفة والتي تبدّت بإشكاليتها وتظليلها للمتلقي العادي كلغز يتطلّب حلّاً , فهو بقراءته ككتاب يثير مثل هذا الشّعور الذي يجعل القارئ يصارع أمواجاً هائلة في محيط مضطرب لعصر متخم بالدسائس والفتن , فكيف إذا تلقى الجمهور المتباين في الذوق والمستوى هذا النّص كعمل مسرحي على خشبة تهتزّ فرقاً أمام عظمته وأهميّته وفي عصر لا يألو جهداً في اختلاق كلّ ما يدمّر , وينتهك من إنسانية الإنسان , وينال من سلامه و سويّته .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى