Uncategorized

قيد النجاة !

قيد النجاة !

تبارك جمال الحسين

في طيات القدر لا يمكنك أن تتوقع، لا يسعك سوى أن تنتظر، فلم يسبق لسائق القدر أن حرك المقود وفق مرادنا ولم يسبق له أن أعطانا أمراً دون تضحيات، إلا أن تضحية عظيمة كهذه لم تلامس شغاف مخيلتي بتاتاً وكسراً كهذا لم أوضب له ما يكفي من حقائب الخيبات، بعد اثني عشر عاماً وردياً قرر ذاك الوردي الانحناء أمام رمادية الأيام، أمام دروب لا تترك لي الباب مغلقاً نهائياً كي أستقل مقعداً في إحدى المحطات المنعزلة عن الحياة، ولا تعطيني أملاً بفتح الباب على مصراعيه، كنت رهينة اللحظات ومتشبث قلبي بالألم، لم أعهد أن أفارق الطفولة بهذا الشكل ولم يطلعني أحد على فقد كهذا، قد يتخلى أحدهم عنك وقد يخيب ظنك بأقرب ملاّك فؤادك لكن أن تتخلى عني هي بالذات كانت معجزة ليست في الحسبان، لم أستطع بعدها مجاراة الأصدقاء ولم أستطع ملامسة الأرض بخفة والتحليق كالطيور كما السابق، لم أعد في عهد أبدي مع ذاتي لا يمكن لعواصف الشتات التسلل بيننا وتفريقنا بل اعتزلت حتى عن ذاتي، أيحدث لك أن تمارس جنون وتضحيات الحب ومن ثمة يتخلى عنك إثر قرار، حيث أن ذاك القرار لم تكن لا أنت ولا هو طرفاً فيه، كيف لك أن تمضي على بلاط العمر غير آبه بشيء بعدها؟ وكيف لقلبك المسكين أن يتعلم النجاة بعد غرق كهذا؟

إنك في متاهة ما مع رمادية أيام ليتها كانت سوداء كحل وكنت ارتميت في حضن ثياب ناصعة البياض، وغبت عن الجميع، فلا أنا التي احترقت ألماً ولا هم الذين ما عرفوا غير البساطة وشقاء الحياة أن يجولوا معي في سجن كهذا، أو يا ليتها كانت بيضاء ثلجية لا يعكر صفوها فقد ولا قسوة أظافره المستعصية بها، لقد تخلت عني أخيراً وها أنا وحدي تماماً أمارس طقوس عبور الأيام بصمت العجز، كانت آلامي تزداد كلما رأيت والداي تتجشأ روحيهما صمتاً وينتحب ذلك الصمت في ثنايا ملامحهما التقية البسيطة، أوجعني بحق ذاك الفقد ولم أتمكن من مواجهة حقيقة أنني أحيا دونها، لذا اتخذت ركن بيتي مسكناً أعيش به مراهقتي وشبابي، إنَّ جذوة الجرح لم تهدأ في كلِّ مرورٍ لرياح لحظة الفقد يشيخ بي العمر قهراً، خففت من ثقلي ابنة عمي التي أمست معلمة لي تأخذ بيدي لهداية العلم، وبعد صراع ذاتيّ زاخر الانهمار تمكنت من حيازة شهادتيّ التعليم الأساسي والثانوي، تلك القوة الرهيبة التي امتلكتها في ذاك الوقت أذهلتني فيما بعد وما أدركت كم ملكت في حينها ثقة، حتى وصلت ليوم كهذا حقاً تولد المتانة من رحم الألم !
ذكريات الأماكن الممتلئة بصقيع الأبيض، وأشعة الأجهزة التي تعطيك قليلاً من الوقت لنسج معطف يقيك شر الفراق الحتميّ، أشعة كيماوية علاجية ولا ألوان وردية زاهية، ولا صوت طفولة بريئة، ولا جرس مدرسة يجول مسمعي ممتزج بضحكات الأصدقاء، وحدي تماماً والخيبة والأسئ يرافقانني، أينما وليت وجهي رأيت جهود عائلتي الغفيرة بإخفاء حزنها وكسرها، وما أدرانا أن الحزن يملك من الشفافية ما لا يمكننا تصوره؟! يداهمنا في أضعف اللحظات يخيّم على عالمنا يرتدينا متجولاً بنا بأزقة أشواقنا المرهقة، كيف لنا منعه ونحن اللذين ماعاد لنا رغبة بشيء، ربت والداي على كتف فؤادي بحنانهما مطوّلاً، ومنحاني الأمل الوحيد القادر على إحيائي بعد كل رميم وجرعات ساحقة الأسى، ابتعدت كثيراً عن الجميع فشعور العجز والغيرة أحبطني حد أفقدني رغبة المواجهة القدرية، هي فارقتني تركت لي الوحدة الكئيبة و شيئان أتكئ عليهما بعدها كروتين اعتيادي، لم تمتد علاقتي بهما كثيراً وسرعان ما استعضت عنهما بطرف صناعي أعاد لي القليل من عبير ذكراها الفوّاح، لم أستطع تصديق أن أمراً يمكن للإنسان صنعه أن يعوضنا بطريقة ما عما تهنا بعد لهيب غيابه، عقدت معه رويداً رويداً قران الصداقة، وعدت بخطا حذرة لمجاراة الحياة بلحظة صباحية شاهقة الأحلام، إذ غالباً ما تأتي الصباحات مشرقة بتوقيت الأمل القلبيّ لا عقارب الساعات، كما فراشة ربيعية أراقص النسيم، و أتشبث بيد السعادة دون حسبان لكونها زيفاً أم حقيقة، قطعتْ الأيام شوطاً وإثر إلحاح الفكرة ببال والدتي قررتُ الإقبال على ذاك الشروق بفرط الشوق وما أدرانا ما عواقب الإفراط أو ما روعتها…؟!

تنفيذاً لرغبة والدتي بانضمامي لمركز تنمويّ -إذ أنني بعد المرحلة الثانوية لم أتابع تحصيلي الجامعي- وكخطوة إنقاذي من العزلة وافقت على إلحاحها المستمر، مضيت إليه أحمل رغبات عديدة لكنني لم أجزم بتحقيقها إذ أن من لم يتذوق سوى المرارة حتماً سيهاب طعم حلاوة اللحظات، أمرُّ بنظراتي على روعة المكان الدافئ أشعر أن صلة ما تجمع بين قلبينا لربما خطَّ القدر صفحة لا أملك حبرها في كامل كتابي، الدفء، الحنان، البهجة، القدرة على المساواة بين شخصي والآخرين، والحياة بحلتها المذهلة عادت إلي، لم أحضّر لها مائدة فاخرة بما يليق بها لم أشعل شموعاً ليلية مخضبة بندوب البدر، لم أكن سوى تائهة فأقبلتْ نحوي بشغف بالغ أدركت أن الاستمرار والوجود أحد حقوقي المتجذرة التي تنازلت عنها إثر فقد !
اليوم ها أنا يلوذ العجز متوارياً بابتسامتي التي لا تخلو من مدمعي الذي أخفيه بأعماق الروح الساحقة، أحاول دفنه في مقبرة الذاكرة، والمضي قدماً، أطلق العنان لكل قيد، وأنهمر كما أعجوبة أيلول المطرية.

أخذتْ بيدي الأعمال الإنسانية التي توليت القيام بها في المركز التنموي نحو شروق مغاير إذ لا يُسعَد الإنسان كما يُسعد بابتسامة غيره! في تلك الأثناء التي كنت احاول بها العودة، أوضب حقائب السفر نحو الوطن الأول وهو الحياة، كان القدر يقحمني في زقاق الحب، بهيام العاشقين، جمعنا ألمي وفقدي حيث كنت أتابع عهد الصداقة الجديدة، تقدمَ لي قاطعاً علي هول الكوابيس بعدمية عناقي للحب إثر ما فقدت، لكنه جاء كما أعزوفة يونانية ساحرة الوجدان، ازدحم قلبي به هياماً ونما حبنا حتى أثمر بطفلنا المعجزة الكونية ،والهدية المقدسة التي وهبني إياها الله بعد كم الشقاء المضني (ثائر ) الذي ما كان ابناً فحسب إنما الأمل المزهر المتجدد الذي لا ينضب ، ثائر الذي اكتسح كل جرح، وأذاب أرقي ومأساتي كما يذوب الثلج بعد هبوب رياح الرغبة المفرطة العشق، على مهل، على وداعة، على روعة، على قمة الذهول، أتاني القدر به وأنا التي لم تعرف حباً بهذا القدر مسبقاً، أيكون القدر قد أفرط علي بجميل كرمه ولشدة هذا الكرم لم أعد في قدرة على توبيخ الألم؟! وتركت كل شيء يغدو سالماً ما عدت أعير جروحي اهتماماً وعقدت هدنة أبدية مع الشجار الذاتي، تسامحت وأغرمت بكل شيء مجدداً، لا يزال الشك يراودني عن كونه ليس طفلاً بل ملاكاً هو الذي عوض فقدي بكل شيء عطفاً ألا ينبغي لروحي أن تفديه لربما هذا أقل ما قد أجازيه به رداً على جميل وجوده الألق، وكعادة السفر بتحطيمه فتات أفئدتنا داهمنا آخذاً بيد من آمنت بحبه حد إيماني بالمقدسات، مُزجَ نبضي بين خفقات السعادة بوليدي و شعور الأمومة العظيم وشوق وظمأ الأسفار، والبقاء على جانبي مدن وحدود بيننا، لكنه بقلبي لا محال، أن تحيا هذا يعني أنه عليك ممارسة فن العيش والمقاومة لأجل الوجود الروحي الأبدي، سامحت تخليها عني وأدركت أنها أُجبرت وما ملكت حينها غير المرض المستعصي، هي ضعفت حد فقدانها روحها، وصمتها أمام البتر، لم تود يوماً استبدالها بطرف صناعي، ولم تكن تعلم أنها قد تغادر قبل بقية الأعضاء الجسدية، ساقي المتينة التي داهمها سرطان قدري دون سابق إنذار قاومت حتى النهاية.

لم أغضب منها بقدر ما تقت إليها، وما وسعني غير تساقط الدموع، إلاّ أنه اليوم أدعو أن ترقد بسلام وبحبي الأبدي إياها، فكل ما أملك من مراد هو الحياة ومعانقتها بشغف، باجتياح لكل ألم متشبثة بيد وليد أحشائي الذي ما لبث يهمس بلحن فؤادي : تشبثي يا أمي نحن معاً وأمل السموات يرعانا!

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى