
قصة قصيره ضـائـع
بقلم . أحمد صالح نصَّار
وخبت وكأنـها تعلم تفاصيل كل حدثٍ في القصة.
نائمـة بين بيوتٍ أرهقتها صدمات الزمن وأتعبتها مشاق الحياة، هادئة وادعة بكل ما بها من سحر الكلمات على جمر تلك الأيام التي تمر مسرعة كما لو أنها ريحٌ وروح الأيام الغابرة فعاد فرحاً كما طفل للتو يمسك قلمه ليخط قصته، قصة لم تطبع أبداً وحبر يولد لها كل يوم، هي دمه الذي يفترش مهد الحياة ورؤاه التي تخرج من عمق معاناة الذات واغترابها هاتفاً نحو السماء:
تلك القصة خلقت من الزل لتبقى للأبـد، لكني أخاف من أحلامي ومن هدير لغتي.
أخاف مني ومن فوضاي كخوفي على الأسطورة.
القصة التي تعشقني وأعشقها دون كلام ليكتشف أخيراً أنه هو الذي في عالم القصة ضـائـع.
هي الأيام التي تمر مسرعة كما لو أنها ريح من تلك الرياح التي تسكن أعالي الجبال، تُصدر أصواتاً كما أنين أرواح الدهور الغابرة في تلك اللحظة من ذاك اليوم ثمة كاتب يهرول نحو منزله يفرك أنامله محاولاً الاختباء خلف الجدران تحاشياً لبردٍ أو مرض قد يصاب به، خاصة وأن السعال ملازماً له منذ زمن بعيد، كان يخشى أن تغير فكرة القصة التي سوف يكتبها على الورق بعد أن تخمرَّت في ذهنه تماماً.
دخل منزله وأغلق خلفه ذلك الباب المهترئ، الذي يكاد أن تهوي رزاته مصدراً صوت كنغمة تحاكي موسيقى أرواح التائهين.
أشعل المدفئة تلمس قليلاً من حرارتها ثم جلس إلى طاولته التي كان دوماً يشعر أن ثمة علاقة بينهما، يشعر أن الطاولة تنتظره طول النهار، وأنها على شوقٍ لمعرفة أفكاره الجديدة.
جلس وبين أنامله قلماً يفكر ويتأمل من أين يبدأ تلك القصة التي أخذت مجهوداً كبيراً من التفكير بها ورسم فاتحتها وأحداثها وعقدتها وأسلوب طرحها، خاصة وأنه دوماً يفكر بابتكار أساليب جديدة لنفسه في هذا الفن.
هو معتاد أن يأتي بها من الخيال ثم يلبس الخيال شراشف الكلمات يهندسها أكثر لتحاكي الوقاع تماماً، مع الحفاظ على هلامية الشخوص وذهنية القصة.
وبعد سبرٍ طويل كما لو أنه ألف عام، بدأ يخط أولى كلماتها، حيث قال:
سيدتي لا بد من تنسيق المفردات، ولا بد من مغامرة صوتية كي تخلق المتعة الجمالية في النصوص اللغوية، فكيف ستكونين إعجازاً أدبياً مميزاً دو أن تُحاط خيط المثيرات الجمالية بشكل يناسب حالة التناغمات الحسية بين شخوصك الهلاميين.
هنا، أدركت القصة أنها ستمر بمخاض عسير، فهمست له بصوت عذب رقيق كما تشاء، لا بد من خلقي على أكمل وجه ممكن له أن يكون.
وراح ينهمك بها وهي تتفاعل معه حتى أصبحت قصة فريدة بنوعها، من تلك القصص التي دوماً تترك أثراً، وعندما انتهى حضنها وقبلها كما لو أنه يودعها، فهو كذلك دائماً فوضوي بعد كل قصة ينسى عوالمها وحاراتها وأزقتها، يبدو كما لو أنه غريبٌ عنها منسلخ تماماً عن أحداثها، هي فوضاه وذات لحظة حملها معتقداً أنه وضعها في محفظته، وعندما جاب القرى من قرية إلى قرية كان يحفز نفسه ويحاكيها، ونفسه دوماً صامتة مصغية لذلك الأنين الذي يكن روحه فيهمس:
إن في القصة إيحاءات متتابعة الدلالات للحالة الغزلية الشفيفة التي تسير في قلب المتلقي من عاطفة يفهمها المتماهون معه فيعرفون حنكة التصوير ورهافة التعبير.
فجأة، تسربت أنامله نحو محفظته كي يلامس القصة التي خطها بدموع فرحته على الورق.
تحسس ثم تحسس لم يجد شيء، فتح المحفظة نظر ملياً، لا شيء بداخلها أبداً، صرخ متسائلاً:
أين القصة، أين وضعتها، هل فرَّت مني لأني أتعبتها كثيراً.
همس: كانت بذلك النضوج يا إلهي ماذا عليَّ أن أفعل الآن؟
وراح يبحث ويبحث في التلال، السهول، الجبال، في عيون جميع من يصادفهم، يسألهم: هل وجدتم لي قصتي، وتاه بين البيتين، بيتٌ مخملي وبيت جدرانه حزينة، ثم جلس في إحدى زوايا البيت الحزين وهمس بعد أن أنهكه التعب:
مسكينة أيتها القصة، لا زالت أناملك ناعمة، ولا زلتي مرهفة من ألم الولادة، كيف ستكبرين، وكيف ستسطع شمسك في أي الأماكن النائية سوف تعيشين، وفي قلوب من ستسكنين، كيف لي أن أراك، وألا أقرئك وأرعاك.
كيف لنا أن نتوه، وكيف يفهموك وأنا الوحيد القادر على شرح أفكارك ورؤاك، وتغير أحلامك وعذاباتك وقدرتك على خلق المتعة الجمالية في النفوس؟
كيف لك أن تضعين يا قصتي الصغيرة بحداثة ولادتها الكبيرة في رؤاها وما بك من أفكار عظيمة؟
كم أنا تعس، يالحزني على تراكيب وألفاظ وتصوير وكثافة وجوهر ومضمون ومثيرات أودعتها داخلك بسريان سردي عميق، وإيقاع يحمل تأملات سريالية تزيد من ذهنيك تفتحاً واستغراقاً في حركة الأشياء والموجودات من حولك، فكل جملة تشكل مدونة عميقة بإيحاءات تأملية مفضية إلى التنامي الجمالي المطلق.
وراحت دموعه تسبر خديه حتى غفا وهو يئن.
قصتي، أنت وحدك قصتي كما لو أني لم أكتب غيرك في حياتي، لما بك من حياء وخجل وصلابة.
أنتِ أملاً كان دفيناً في تلافيف أخيلة من معاني لتصبحين صورة تنافس بجمالها ربات الشرق، ونام.
أشرقت شمس يوم جديد، شعر بحرارتها تلامس وجهه، فتح الكاتب عيناه مثقلاً من أوجاع الأمس كما لو أنه كان في حلم يعمل جهده لينقذ قصته التي أحبها حب قل نظيره وهو غير مفهوم بالنسبة له فهي قصة وهي واحدة من مئات القصص التي تحدث كل يوم.
اقترب من النافذة، أخذ نفساً عميقاً، ثم هتف:
الأمس قد مضى، لن يعود الغد، قد يكون به قصة، إلا أنه بعلم الغيب.
إذاً، هي اللحظة الآن، وأنا دوماً ابن اللحظة دوماً أحيا بها كما هي، هو لا يعلم أن قصته كانت ماثلة أمام ناظريه تحيط به تحاول إبعاد التصحر والخراب عنه كوحي من خلف ستار يمزق وحدته، يودي ينابيع خصوبة متخيلة، دون اغتراب عن ذاته وذاتها، تلهجه فيضانات النظارة والجمال لذلك الصراخ الداخلي الذي بوصفه المحرك الدلالي بكينونة الوجود المكون لحركة الإبداع داخلهما.
حينها وبهذه اللحظة عملت جميع حواسه ليكتشف أنها ليست ضائعة بوصفها ذات زخم تأملي مفتوح، تحمل الشوق ذاته للانعتاق في فضاء ملكوت الكلمة التي راح يحرث حقلها ليزرع بذار النور لتكون أذكى الثمار من جدولٍ لا ينضب.
وذات ليلة وقفت القصة أمامه منتصبة بكل ما أوتيت من عنفوان وكبرياء ومعرفة، هو كان يشعر بوجودها وبظلها الذي كان يخيم على هواجسه، يفوح منها عطراً لا وصف لرائحته.
وقفت القصة لتفرج جناحيها ببراعة تشكيلية لافتة لوجود حركة ما وفق سيرورة منسجمة في حساسيتها المفرطة تجاه مبدعها الذي رسمك بكل هذا الجمال والسحر لتقول له وهو يصغي بكل ما أوتي من معرفة تكلمت وفق حيز نسقي ائتلافي مترابط العبرات يزيد الدفقة انتظاماً في النسيج وعمق في الإيحاء لتبوح له:
أنا، أنا قصتك حزينة لأنك اعتقدت ألا يدي أفلتت من يدك، وبحثت عني كأني ضائعة لما لم تنظر أيها الأحمق الفوضوي لذلك الحبل السري الذي بيننا وأنت من سكب نواه روحه حينما كتبتني بكل معايير الجمال، ورسمت حروفي بماء من نور على ورق من نار فغلينا معاً وانطلقنا معاً، حتى لو نستني كورقة صفراء في مكان ما فأنا أتبعك بكل ما أحمل من معاني وروح النص المكتوب.
وجبت معك كل الدروب بوحلها وبردها وترابها وغبارها وحرارتها منذ أن أيقظتني من نومي الذي كان غافي في عقلك ملتحمة ملتصقة بك.
إن جُل ما يحزنني أيها المعلم هو أنني نضجت وترعرت بين ضفتي قلبك وسرت على خطاك بكل وفاء.
أنا، أنا قصتك التي هي أنت.
كانت تهدر كلماتها بكل قوة ثم أردفت:
ألا تذكرني وأنت تكتبني حين انفلت منك الزمان، وتهت عن المكان الذي بداخلي، كيف وبكل براعة استدركت وجعلت من الحوار بين الشخصيات عامود العقدة.
ألا تذكر ذلك وأنني أنا من نبهك كي أكون دقيقة مدروسة بعناية ومنظمة بخيط تشكيلي فريد، لكي أبدوا بغاية النضج والاكتمال النضجي لفن القصة:
كم أنت أبله، وكم أنا أحبك، تلك هي الحقيقة لا وجود لنا إن لم نكن معاً.
حينها، تلمس ذلك الضوء المشع من محفظته ليجدها نائمة هناك على طاولت التي كانت مبتسمة.